جمالية التشظي في رواية السقشخي



 
إذا كان التوحيدي يعتبر الإنسانية أفقا والإنسانُ متحركٌ إلى أفقهِ؛ فإن الإنسان في المنجز الروائي المعنون السقشخي للأديب العراقي علي لفتة سعيد يتجلى كائنا ورقيا دالا يتوخى الانفصال عن كثير من المواصفات والمواضعات؛ التي يبدو بعضها مليئا بالدناءة فتجعل الإنسان متلبسا بأخلاق بهيمية خارج منظومة التاريخ؛ سجلها الأديب أدبا عندما تتبع المسيرة الحياتية لماجد أستاذ التربية الفنية؛ الشخصية الرئيسية في الرواية الذي تعرض لشتى أنواع المضايقات في بلده العراق عندما اتهم بعدم الامتثال لأوامر الجهات العليا للبلد؛ وكذلك عندما تعرض للاعتقال في نيويورك عندما ضبط وهو يصور برجي التجارة العالميين عندما تعرضا للهجوم البربري من طرف الارهاب العالمي.

إن الكاتب يبني في هذه الرواية عالما سرديا قائما على التشتت والاختلاف واللانظام؛ حيث يتشظى التجلي الوجودي للذوات النصية؛ حيث الرواية تبدو من خلال قراءتها أنها مجموعة من المشاهد المتقطعة يربطها خيط ناظم  يعمل على تجميع التبعثر وتنسيق التناقض الظاهر؛ أو يعيد تشكيل الأحداث المعاشة والمبعثرة في وحدة سردية متناسقة التي تجعل الكاتب من حين لآخر يعود إلى الحكاية الأصل لبناء حكاية أخرى وهكذا دواليك.
إن الرواية في عمومها لا تتكلم عن الإنسان العراقي فقط وإنما تتحدث عن الإنسان العربي الذي يعيش التشتت والضياع بعيدا عن أرضه وأهله؛ والسبب في ذلك هو السياق الثقافي العربي الذي كان وما يزال وراء تبلور وجود إنساني موسوم بالتشظي.
وإذا كان ماجد مولعا بالتقاط الصور الفوتوغرافية فإن الروائي استطاع التقاط مشاهد روائية تتحاور فيها شخصيات مختلفة غايتها ابلاغ فكرة ما يؤمن بها السارد ويحاول ايصالها بلغة فنية الى ذائقة المتلقي؛ من خلال لعبة الحوار القصير فيما بين الشخصيات من جهة وبين الشخص الواحد أحيانا عندما يتحول الحوار من ثنائي الى مونولوج؛ حيث تتداعى الأفكار وتتداعى معه قراءات المتلقين.
وقد ظهر هذا النوع من الحوار أثناء تعرضه للمحاكمة سواء في العراق او في أمريكا لتأكيد براءته؛ إذ إننا نشعر بأن السارد هو الذي يشغل موقع الذوات المتحاورة ويتحدث بلسانها ويصف أفعالها في سياق يمكن نعته بالحوار المتخيل الذي يتجاوز الشخصيات الممثلة لأدوار الرواية وذلك من أجل تكريس ديكتاتورية السارد.
وفي النهاية يمكن أن نقول بأن رواية السقشخي للأديب علي لفتة سعيد تعتبر أقوى من كتاب في التاريخ لأنها التقطت مشاهد حقيقية حية من الواقع؛ كتبها بعين الروائي الذي عاش اللحظة وواكب الأحداث وكأنه شاهد عيان يحكي للتاريخ ما حدث من أحداث تاريخية واقعية؛ لكنه لم ينقلها بعين الكامرا العاكسة وإنما نقلها بعين المتخيل السردي الذي هو نبض الواقع ومحرك الانسان وضابط تناقضاته.
وإذا كان التاريخ تكتبه الكهنة كما قال ابن خلدون؛ والكهنة في ديرتهم يمكنهم الزيادة والنقصان؛ وتزييف الحقائق التاريخية؛ غير أن كهنوتية الرواية تُعتبر صادقة لأنها تضمر الحقيقة وراء اللغة الأدبية البلاغية؛ وتفتحها حين الحاجة إليها من خلال ترك كوة في سديم الظلام يدخل منها القارئ الفطن الذي يلتقط الحقيقة التاريخية من وراء السطور.
وحتى لا أحرق أوراق الرواية أقول كما قال  هرمان هيسة في روايته ذئب البراري (إن المعركة ضد الموت وحب الحياة بدون حدود حسب الهوى هي الدافع الذي بحث فيه كل الناس العظماء وعاشوا لأجله) مما يوحي بأن الحياة تؤسس تفاعلا صراعيا مع الموت؛ لذلك فالاحتفاء بالحياة بكل مكوناتها في الرواية للأديب علي لفتة سعيد هو تمرد على الموت وعلى القهر ورغبة في تأكيد حقيقة حق الإنسان في الحياة...
محمد يوب
ناقد أدبي


تعليقات