بلاغة الرعب في القصة القصيرة



بلاغة الرعب في القصة القصيرة
قراءة في (خياط الهيئات) لأنيس الرافعي

للقاص أنيس الرافعي مشروع خاص تدور حوله معظم أعماله، قد يحيد عنها في بعض الأحيان، لكنه يظل يحتفظ بخطه الأساسي الذي يرى نفسه فيه.
والقصة القصيرة عنده ليست مجرد إبداع أدبي فقط، بل هي وعي بحقيقة وأهمية هذا الإبداع، إلى حد أنها باتت تشكل لديه قضية يؤمن بها أو حجة يدافع عنها لإقناع المتلقي بأفعال وروابط حجاجية لغوية وأخرى بلاغية تتنوع بتنوع الأفعال الكلامية التي تقوم وتنهض عليها القصة القصيرة.
خاصة أن موضوع الحجاج كما يرى بيريلمان وتيتيكا هو دراسة تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من طروحات، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم، ولا يمكن للكاتب أن يدفع المتلقي إلى الإذعان إلا إذا استطاع إقناعه بحقيقة ما يحكي وبقدرته على تتبع القراءة والتصديق بعوالم الحكاية وشخصياتها وصدق قضاياها؛ معتمدا في ذلك على مجموعة من آليات السرد وتقنيات الكتابة التي تتضافر في ما بينها لصناعة المعنى وتركيب المبنى. والثيمة التي سأشتغل عليها في هذه المقاربة النقدية هي: كيف يخلق القاص من الرعب جمالا؟ وما هو الخيط الناظم بين رعب القصة وارتعاب القارئ وإزعاج أحلامه؟ وما هي الأساليب الإقناعية التي اعتمدها القاص لتأكيد حجية قضيته؟
ـ العجيب والغريب
إن قصص الرعب التي يعتمدها أنيس الرافعي في مجاميعه القصصية؛ وبشكل مخصوص في «خياط الهيئات»، هي مجموعة من العوالم المتخيلة يكتبها القاص بدمه؛ تتقاطع مع الموت وتتماهى مع الحزن؛ تدور أحداثها في فضاءات تختلط فيها متعة الجنة بحريق جهنم لكي تُدخل القارئ في عوالم مغايرة، تتيح له فرصة التنفيس عن مخاوفه وقلقه وتخلصه من طاقاته السلبية، بتتبع تداعي نفسيات الشخصيات واضطرابها بسيكولوجيا وسيكولوجيا… فمرة نجدها غارقة في الرُّهاب الفكري ومرات عديدة نراها تنتشي بتضخم الأنا التي تدفعها إلى تشغيل ماكينة الرعب بشتى أشكاله وأنواعه؛ فمرة يحملها القاص أنيس الرافعي على حمالة (الشركة المغربية لنقل الأموات)، ومرة يركنها جانبا في (مصحة الدمى) أو يحتفظ بها في (متحف العاهات) أو في محل (خياط الهيئات)
ـ في عمق خياط الهيئات
وفي هذه المجموعة «خياط الهيئات» يتعمق الرافعي في أجواء شخصياته ويتفنن في تفكيكها بهدف إعادة خياطتها، وكأن القاص خياط ماهر يفصل ويخيط شخصياته الورقية، كما أن القصة القصيرة ضرب من الخياطة يتقاطع فيها الحقيقي بالخيالي .
والشخصيات ليست آدمية من لحم ودم؛ وإنما هي شخصيات ورقية متخيلة تعيش وتنتعش في الوسط القصصي، غير أنها تطمح إلى الخروج إلى الوجود من خلال متواليات سردية حوارية يبتكرها القاص لإيهام القارئ بحقيقة ما يحكي
ـ سميائية العتبات
يقصد بـ (العتبات) بوابات المنجز القصصي القصير التي توجه القارئ إلى قراءة المتن القصصي وتساعده على مزيد من التلقي والتأويل، وهو مجموعة من العلامات التي تسبق المتن القصصي، ولا يكتمل المنجز إلا بها، ومن بين هذه العتبات نذكر صورة الغلاف والعنوان والمقدمة والإهداء والعناوين الداخلية للقصص وكلمة الناشر.
أ- البنية الغلافية
تعتبر بنية الغلاف من أهم العتبات لولوج فضاء المجموعة القصصية، فهي التي توجه القارئ وتبين أفق انتظاره، ولا يمكنه الشروع في القراءة بدون الوقوف على هذه العتبة، إذ بها تنفتح مغاليق النصوص القصصية، وبها تترسخ المجموعة القصصية في ذهن القارئ، وتصبح مع مرور الأيام دالة عليه، وبذلك يتم توسيع دائرة إشعاعها على نطاق واسع وعلى امتداد عقود زمنية.
ولوحة الغلاف «خياط الهيئات» للفنان العراقي صدام الجميلي؛ تفتح شهية القارئ لتلقي جرعات كثيرة من الرعب على امتداد مساحة القصص المشكلة للمجموعة القصصية؛ تشعره وكأنه في مرآب (إحالة إلى كهف أفلاطون) فيه أجنحة مظلمة، كل جناح يتضمن قصة مرعبة تدخل القارئ في ردهاتها وأنفاقها المعتمة، وفي عمق اللوحة تبدو الشخصيات وكأنها مجسمات لهيئات بشرية ممسوخة، مرعوبة، شاخصة عيونها، كالحة وجوهها؛ في فضاء كئيب يغلب عليه السواد والعتمة، تنظر في الاتجاه المقابل إلى وجوه أخرى منشرحة مبسوطة ربما هي اللوحة الحقيقية التي يأملها القاص ويأملها المتلقي. وهذه اللوحة لا تكتفي بحدود ما تعكسه، بل تتجاوز ذلك بفعل عملية الاستدعاء إلى استحضار عناصر كثيرة غائبة عن معطياتها المباشرة، من أصوات وروائح وحرارة وغيرها.
ب- عتبة العنوان
العنوان في القصة القصيرة هو بوابة القصة، ومفتاح لضبط النصوص القصصية، وسلطة تحدد هويتها …منه نستل رأس الخيط ونعرف طبيعة الموضوع الذي نحن بصدده، لتبدأ حوارية المتلقي مع النصوص القصصية، وقد يشكل لوحده قصة متوازية مع النص الرئيسي. وللعنوان وظائف كثيرة، منها:
-
الوظيفة السيكولوجية: حيث إنه يساعد على استفزاز القارئ وإثارة انتباهه، بل يحاول في كثير من الأحيان استمالته وإقناعه لتقبل موضوع القصة والتعاطف مع شخصياتها.
-
الوظيفة السوسيولوجية: بحيث إن العنوان يصدم القارئ لارتباطه بواقعه الاجتماعي وبهمه المعرفي، بل قد يتقاطع مع معتقداته وأيديولوجياته.
و»خياط الهيئات» كعنوان بارز؛ بلون أسود يزيد من إثارة القارئ ويستفزه لمعرفة ما يحتويه المتن القصصي من نصوص مرعبة قاتمة؛ لكن أثبتت الدراسات القديمة والحديثة أن تحت الخمار الأسود هناك امرأة جميلة. كما أن اسم الكاتب جاء باللون الأحمر الذي يرمز عادة إلى الغضب تجاه قضايا اجتماعية وإنسانية كثيرة، لكنه في الوقت نفسه يرمز إلى الهدوء والسكينة في تناول هذه القضايا النفسية والاجتماعية المختلفة والمتنوعة.
ـ جماليات الرعب في القصة القصيرة
سيلاحظ القارئ العربي في هذه المقاربة النقدية لـ»خياط الهيئات» بأنها مقاربة تتغيأ إبراز جماليات الرعب في القصة القصيرة؛ مبينا الأساليب الحجاجية التي اعتمدها القاص لإمتاع القارئ وإقناعه بهذه الجماليات، وتدفعه إلى الإذعان والإيمان بحقيقة ما يحكي من قصص متخيلة في لبوس عجائبي. صحيح إن المجموعة القصصية عبارة عن متواليات سردية بعناوين مختلفة، لكنها تشكل في شموليتها حكاية واحدة هي التي نسميها بـ(الحكاية ـ الإطار «النص ـ الأم») التي تحتوي كثيرا من الحكايات الصغرى بعوالمها المتخيلة الغريبة والعجيبة؛ اعتمد فيها القاص أنيس الرافعي على ثيمة الرعب؛ التي تغوص داخل الشخصيات لتكتشف من يُرعبُها؛ لتكسر حاجز الرعب الذي بداخلها؛ كما أنها تعالج الرعب من أجل مواجهته وليس من أجل تزكيته؛ وتعكس مدى الخبث الذي يحمله الإنسان؛ وكأنه حيوان مفترس يبث الرعب في نفوس الآخرين. ولا يمكن للمتلقي أن يذعن ويقتنع بكل هذه الحكايات العجائبية، لولا اعتماد القاص أنيس الرافعي على جمل حجاجية لغوية وبلاغية بليغة ومبلغة، الغاية منها التأثير في المتلقي ودفعه إلى الإيمان والاقتناع بحقيقة ما يحكي؛ وبحقيقة هذا الكم الهائل من الرعب؛ وما تزخر به القصص من فجيعة وما تكشف عنه من هلع؛ بمعنى أنه يتتبع منهجا عدوليا يخرج به عن المألوف؛ يشد انتباه القارئ ويثير مخيلته لإثبات المعنى وتأكيده.
ومن هنا يمكننا القول بأنها ليست قصصا بالمعنى العام للقصة وإنما هي عبارة عن طلاسم وخيالات مرعبة فيها إثارة وتشويق؛ وغرابة وتغريب ومن هنا جاء سر جمالية الرعب فيها؛ لأنها كتابة بوعي تتضمن مساحة هائلة من الخيال؛ تورط المتلقي وتدخله في لعبة السرد ليصبح عنصرا فاعلا في عملية الانكتاب القصصي، لأن لعبة السرد القصصي القصير في عمومها لعبة تشاركية تفاعلية، يشترك فيها القاص والقارئ والنص القصصي القصير.

تعليقات