التاريخ عبر الرواية


 

التاريخ عبر الرواية في «مقتل بائع الكتب» للعراقي سعد محمد رحيم

إذا كانت هناك روايات كثيرة تبعث على التشاؤم لما فيها من تدن فني وجمالي؛ فإن هناك في المقابل روايات ترقى بذائقة المتلقي، كما نجد في المنجز السردي المسمى قيد نشره «مقتل بائع الكتب» للأديب العراقي سعد محمد رحيم لما فيه من تمازج بين جماليات أشكال تعبيرية كثيرة منها التقطيع المشهدي والحوار المسرحي والتناسق التشكيلي والروبورتاج الصحافي. 
وتنمو هذه الرواية وتنهض على ضخ دماء الواقع في شريان السرد ليقتات وينتعش؛ خاصة عندما يعرج على أحداث عراقية أليمة وبالضبط في مدينة بعقوبة الأليمة؛ من خلال سرده للسيرة الغيرية لليساري محمود المرزوق؛ بائع الكتب المستعملة؛ الرجل الهرم الذي «اغتيل قبل شهر في شارع الأطباء في بعقوبة». وقد سعت الرواية منذ بدايتها إلى فرض تقنية المشهد السينمائي، إذ أن السارد يبدو من خلال القراءة وكأنه يتجول بعينيه في فضاء الرواية، وكأنه مخرج سينمائي يحرك الكاميرا في كل الاتجاهات لالتقاط أقصى ما يمكن من الصور الثابتة والمتحركة. وما السارد إلا صحافي من صحيفة الضد اليسارية اسمه (ماجد) يرغب في كتابة مؤلَّف عن محمود المرزوق بائع الكتب القديمة في سرداب إحدى العمارات «أريدك أن تكتب كتابا عنه وسأتكفل بنفقات نشره بطباعة راقية في بيروت». والمرزوق يساري معروف في وسطه الضيق؛ لكن الشيخ صاحب فكرة نشر الكتاب ومن أيده في ذلك، ومنهم صاحب هذه الرواية سعد محمد رحيم؛ يعرفون قيمته ويريدون تخليده في التاريخ، من خلال هذا المنجز الروائي؛ لأنه رجل مناضل جرب السجن في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ تعلم في براغ في (تشيكوسلوفاكيا سابقا) وفي باريس في فرنسا؛ ونظرا لأفكاره الجريئة تعرض لعملية اغتيال في ظروف غامضة «انحنينا عليه؛ بوغتنا ببقعة دم تتسع تحته؛ تسيل نحو الشارع»؛ وسُجل الحادث كما هو معروف دائما ضد مجهول «كالعادة ضد مجهول؛ المجهول المعلوم».
ومحمود المرزوق أكثر من هذا رجل ضليع في محتويات الكتب؛ عارف بأسرارها وبأهميتها «كان يسخر؛ يتهكم…» من السياسة ومن السياسيين «وأظن لمقتله علاقة بآرائه» لأنه يشكل خطرا على النظام باعتباره مثقفا عضويا يغير مجريات الأحداث ويساهم في تفعيل الفعل الثقافي الثوري؛ وهذا النوع من المثقفين؛ مزعج؛ حيث كلما تحرك اسم من مثل هذه الأسماء تحسس الحاكم مسدسه. إن مهمة كتابة كتاب من هذا الحجم وفي ظروف غير آمنة وفي مدينة مثل بعقوبة؛ مهمة محفوفة بالمخاطر؛ لكن (ماجد) يؤمن بحقيقة ما يفعل؛ وبالمخاطر التي تواكب المهمة؛ كما أن رغبته في استكمال هذا الكتاب كانت قوية؛ لإيمانه الشديد بقضية النضال السياسي؛ وبضرورة إبراز الحقيقة التاريخية من خلال بوابة الكتابة؛ لأن التاريخ الحقيقي هو المنشور في شكل إيحاءات وإشارات في سطور الرواية لأنه كما يعتقد «سحقا للتاريخ؛ التاريخ مثلما تقرأونه وتتخيلونه وتفهمونه لم أعد أؤمن به». ومن بوابة التاريخ ينفتح سعد محمد رحيم في اشتغاله السردي على استراتيجية التناص مع التوثيق التاريخي لكسر نسقية السرد الروائي من خلال شبكات كثيرة من التحقيقات المكتوبة والأشرطة المسجلة والصور الفوتوغرافية واللوحات الفنية «حدث بعض اللغط؛ خرخشة في الشريط؛ وربما توقف المرزوق ليحتسي شيئا من شرابه… وحل الصمت» وذلك لتأكيد حقيقة مهمة أن المرزوق «هو بطل هذا الزمان»، على الرغم من أن معارضيه يروجون حقائق مزورة؛ الغرض منها إبعاد صفة البطولة عنه باعتباره «لم يكن مؤثرا…وليس بطلا بأي شكل». والكاتب عندما يوثق أحداث هذا المنجز السردي فإنه يوثق لتاريخ بعقوبة خصوصا وتاريخ العراق؛ وهذا يؤكد أن الرواية وسيلة فنية يمكن من خلالها التعبير عن متغيرات الواقع ورصد أوضاع المجتمع المختلفة؛ وتأريخها بصورة أدبية تصل إلى القارئ وتترسخ بسهولة في ذهنه. 
وبالرجوع إلى الأحداث التاريخية ذات الثقل الإشاري والمرجعي؛ استطاع الكاتب تكسير خط السرد الروائي؛ بالمزج بين التاريخي والفني لتأكيد حقيقة المتخيل السردي؛ وجذب اهتمام القارئ وجعله يعيش الحدث ويندمج مع المشاهد الروائية التي تبدو قريبة منه ومن تاريخه ومحيطه الاجتماعي.

٭ ناقد مغربي

تعليقات