تجديد الدرس الحجاجي.. د. أبو بكر العزاوي نموذجاً


إلى عهد قريب كان هناك  جدل كبير بين النقاد  حول لا جدوى الحجاج ؛ وقد اتخذوا من الدرس الحجاجي القديم  انطباعات ومواقف  بعيدة عن الإنصاف ؛ على اعتبار أنه علم معياري  قديم جرفته رياح الحداثة إلى زاوية العلوم الهامشية .
والحقيقة خلاف ذلك إذ إن الدرس الحجاجي بعيد كل البعد عن صفة الجمود والتعقيد التي نعِت بها ، وله علاقة وطيدة  بالنصوص الأدبية والذوق الفني والجمالي والحياة الانسانية عموما، لأن الحياة لا تستمر بدون حجاج ، لذلك يعدُّ الحجاج من أهم العلوم التي أنتجتها الدراسات اللغوية الحديثة في الحقل اللساني التداولي، نظرا لأهميته في حياتنا اليومية ؛ لأنه يفيدنا عندما ندافع عن قضية من القضايا، أو عندما نترافع عن شخص ما، أو نبرهن عن قرار اعتقدناه صحيحا، أو للترويج لمنتوج تجاري يحتاج منا إلى الدعاية و الإشهار.
ومن أبرز العلماء العرب الذين ساهموا في إحياء الحجاج نذكر د. أبو بكر العزاوي الذي أخرج الدرس الحجاجي من داخل أسوار الجامعة إلى الواقع المعيش، بتقديمه الحجاج إلى القارئ العربي في حلة جديدة  يستسيغها الفهم ، ويتقبلها العقل، بلغة بسيطة تقرب المعنى إلى ذهن القارئ وتحبب إليه المادة العلمية التي كانت بالأمس القريب بعيدة عن الأذهان وصعبة على الإفهام .
وما يساعد ا العزاوي على تبسيط الدرس الحجاجي هو استيعابه الجيد للبلاغة القديمة في أصولها عند الجرجاني والسكاكي والقرطاجني... بالإضافة إلى  اطلاعه الواسع على البلاغة الجديدة بحكم دراسته الجامعية في فرنسا ، وتعلمه على يد علماء كبار في علوم البلاغة والحجاج وخاصة  أزوالد ديكرو  الذي خصَّه بشهادة لا يستهان بها، ترفع من قيمة ا العزاوي وتشجعه على مزيد من البحث والتنقيب في مجال البلاغة بفروعها ، وخاصة علم الحجاج الذي اقترن في العالم العربي باسمه إلى حد أن كثيرا من العلماء  اعتبروه رائد الحجاج العربي الحديث .
والناظر في كتب  العزاوي وخاصة الثالوث الحجاجي (اللغة والحجاج) و(الخطاب والحجاج) و (حوار حول الحجاج) هذه الكتب التي عمّق فيها دراساته حول الحجاج من أساسياته الإوالية ، وذلك بتعريف الحجاج وبيان أركانه وعوامله وروابطه ليتعمق كثيرا في التمييز بين النص الحجاجي والخطاب الحجاجي على اعتبار أن هناك فرقا كبيرا بينها،  حيث الخطاب في نظره أوسع من النص لأنه يخضع للسياق والتداول، إنه " عبارة عن متوالية من الأقوال و الجمل ؛ أو مجموعة من الحجج والنتائج التي تقوم بينها أنماط مختلفة من العلائق"  .
 فالخطاب بهذا المعنى عبارة عن  جمل وأقوال متتابعة ومتسلسلة بشكل متنامٍ وتدريجي وفق برنامج حجاجي تداولي منسجم ،  إنه إذن عبارة عن بنية متكاملة تتضافر فيها عدة عناصر صوتية و ومعجمية وتركيبية ودلالية وتداولية... وأي دراسة أدبية يفترض فيها أن تقف على جميع مكونات الخطاب ؛ متدرجة من أصغر مكون وهو اللفظة إلى أكبرها وهو الخطاب ، لأنه يدرس ضمن ما يسمى الآن بـ (لسانيات الخطاب Linguistique de discours). 
كما تنبغي الإشارة الى أن العزاوي قدم دراسات تطبيقية على نصوص قرآنية وأخرى أدبية، استطاع من خلالها تمهيد الطريق للباحثين العرب لخوض غمار الممارسة النقدية في ضوء المنهج الحجاجي وبآليات وميكانيزمات حجاجية، مما يساعدهم على الاطلاع على منهج جديد قريب من البيئة العربية، وهو المنهج الحجاجي الذي يعوضهم عن كثير من المناهج الغربية التي أصبحت لعنة على المشهد النقدي العربي، لما اتصفت به من حدة وجمود في التعامل مع الخطاب الأدبي.
 ولهذا نؤكد بالملموس بأن الحجاج عند  العزاوي، لم يعد قواعد جامدة حبيسة المعاجم والقواميس البلاغية، تحجر الدرس الحجاجي، وتجعله كتلة صماء لا روح فيها  وإنما أخرجه إلى المجتمع وبث فيه روح الحياة، فأصبح الحجاج يسري في الخطاب اليومي والسياسي والإشهاري ( الإعلاني) ، إلى حد أننا بتنا نتتبع الدرس الحجاجي يمر أمام أنظارنا وتحت مسامعنا كل حين، في وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة من خلال تبسيط أدواته وآلياته التي عرفت تجديدا وتطويرا حسب ما تتطلبه حاجيات العصر المتجددة باطراد مستمر.
والسر في هذا النجاح هو الإضافات النوعية التي دعم بها العزاوي الدرس الحجاجي الحديث ، من قبيل تنامي الخطاب الحجاجي بانتقاله من مرحلة إلى أخرى، ومن مستوى لغوي أدنى إلى مستوى أعلى، بحجج قوية منسجمة ومتلائمة، مما يساعد على حفاظ الخطاب الحجاجي على انسجامه وانتظامه في بنية متناسقة تساعد على الإقناع والتأثير، معتمدا في ذلك على استراتيجيات متعددة  ومختلفة،  تختلف باختلاف  وتنوع الظروف السوسيوثقافية المنتجة للخطاب الحجاجي. 
(الصورة المنشورة للدكتور أبو بكر العزاوي). 
* ناقد من المغرب.

تعليقات