قراءة في قصة " تغريد خارج السرب" محمد معمري

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

محمد يوب
تغريد خارج السرب

فرش حصيرا ، جمع حلقة يروي الأزلية و العنترية ، ويحكي مغامرات السندباد ، رفع سيفه في السماء مهللا و مكبرا ، هرب الحاضرون بين الدروب الضيقة ، صفارات الإنذار تدوي وجد نفسه وحيدا تحت ركام الهراوات .


**************************
أخي الكريم الحاج محمد يوب أقف أمام نص يتميز بالسخرية وهو صورة حية عن مجتمعاتنا وقد ينطوي النص في إطار المثل المعروف: قائل الحق شيطان أخرس...

العنوان:
نجد هذا النص قد اختار له الكاتب عنوانا يتألف من ثلاث كلمات: تغريد // خارج // السرب، وهي جملة اسمية. ومن ثم كانت "تغريد" خبر المبتدأ المقدر بـــ هذا تغريد، و"خارج" ظرف مكان، "السرب" مضاف إليه.. من هذه الزاوية نجد العنوان يتألف دلاليا من حدث (تغريد)،المكان (خارج)، المكون (السرب)، أما إذا نظرنا العنوان من حيث البلاغة فنجده في إطارالانزياح والترميز والإيحاء.
كان العنوان سيعطي للنص دلالة قوية لو أضيف إليه حرف جر "من"، حيث يصبح العنوان كالتالي: "تغريد من خارج السرب"، هذا الحرف يضيف إلى الجملة شبه الجملة، كما أنه يعطي دلالة البداية التي تعلن عن انطلاقة الحدث من مكان.. ومن ثم تصبح هذا العنوان مركب من:جملة الإسناد، وشبه الجملة، والمركب الظرفي...

- [تغريد خارج السرب]، كما نشاهد العنوان يتألف من صوت، ومكان، وجماعة. من هذا الباب نسأل عن من هو صاحب الصوت؟ عن المكان الخارجي؟ عن من هي هذه الجماعة؟ لكي نجيب عن هذه الأسئلة يجب رفع حجاب الترميز والإيحاء.. حتى نستطيع كشف الحقيقة.. فالتغريديمثل النصيحة الرشد الهداية التوعية.. والمكان الخارجي، أو الفضاء الخارجي يدل عن عدم الاستنفاع أو العمل أو بالأحرى حسن الإنصات للناصح، أو الهادي أو المرشد، ... السرب هو جماعة من الطيور التي تسير بنظام وانتظام وفق قائد واحد يكون مترئسا السرب الذي نراه على شكل مثلث... وبالتالي نفهم أن القصة يدور حدثها حول ناصح، أو مرشد.. لمجتمعه إلا أن ذلك المجتمع يستقبل كلامه كمن يصب الماء فوق الرمال ويريد أن يجمعه، أو كظمآن يلاحق السراب...

- [فرش حصيرا،]، يقودنا الحصير إلى زمن غابر حيث كانت حلق الجماعات فوق الحصير على كؤوس من الشاي...
- [جمع حلقة يروي الأزلية و العنترية، ويحكي مغامرات السندباد،]، كان الهدف من فرش الحصير هو بمثابة إعلان عن تجمع من أجل رواية الأزلية التي تعني الأساطير.. والعنترية تعني البطولات رمزا إلى عنترة ابن شداد.. ومغامرات السندباد التي تعني الخرافات، أو الخيال... 
- [رفع سيفه في السماء مهللا ومكبرا،]، تأتي هذه المفاجأة غريبة نوعا!؟ لأن بطل القصة فرش الحصير ليجمع الناس ليحكي لهم القصص.. أشهر سيفه في وجه من؟ هل في وجه الجماعة؟ فما ذنبها؟ هل أراد أن يحرض الناس على القتال؟.. من بين الأسئلة المطروحة لا أجد ما يناسب النص سوى أنه حاول أن يحرض الناس على الجهاد... 
- [هرب الحاضرون بين الدروب الضيقة،]، ويأتي هنا هروب الحاضرون لا من إشهار السيف بل خوفا من أن يٌلقى عليهم القبض ويُزجوا في السجون...
- [صفارات الإنذار تدوي وجد نفسه وحيدا تحت ركام الهراوات.]، ونجد هنا صفارات الإنذار، أي الخبر الذي يصل بسرعة إلى الحكام.. وفي النهاية يجد نفسه وحيدا أمام العصا التي لا ترحم ولا تشفع...

*التناص:
لعل التناص في هذا النص يكشف لنا على أن هذا واقع عاشته مجتمعات... وإن كان في زمن غابر تتحكم فيه آلية الهراوة.. فزمننا اليوم يتحكم فيه الخوف والفرار.. مما يجعل الإنسان يرضى بالذل والهزيمة... 

* التكثيف:
نجد هذا النص مكثفا تكثيفا بنائيا؛ إلا هذه الجملة:[جمع حلقة يروي الأزلية و العنترية، ويحكيمغامرات السندباد،]، هي الجملة الوحيدة التي تفقد النص كلمة "تكثيف بنائي" نظرا لتكرار أزلية عنترية مغامرات سندباد؛ كل هذا كان يُكثف في كلمة واحدة "أساطير" أي هذه الجملة المكونة من ثماني كلمات وحرفي عطف يُمكن أن تختزل إلى أربع كلمات فقط: [جمع حلقة يروي أساطيرا]، ونرى كلمة أساطيرا قد أوفت المعنى ونكرة تجعل لها دلالات قابلة لعدة تأويلات...

* السرد:
الكاتب قد ملأ البياض بالسواد، وفضاء المحذوف؛ فلم يترك للكاتب ولمساحة واحدة أين يمكن أن يسبح فيها بخياله، كأنه قيد القارئ بقراءة الجملة، والنص وفك كلبشة رموزها وإيحاءاتها.. 
وكان سردا بأسلوب الحكي والسخرية التي أضفت على النص رونقا؛ أما من ناحية تراكيب الجمل كادت أن تشبه التدوير الذي تماما هو في الشعر لو كانت على هذا النمط:

فرش حصيرا،
جمع حلقة يروي أساطيرا..
رفع سيفه في السماء مهللا و مكبرا..
هرب الحاضرون بين الدروب الضيقة..
صفارات الإنذار تدوي..
وجد نفسه وحيدا تحت ركام الهراوات.

وقد كادت أن تميل إلى القصة المنثورة أو الشاعرية لو جاءت على هذا الشكل:

فرش حصيرا،
جمع حلقة يروي أساطيرا..
رفع سيفه مكبرا..
فر الحضور بين الدروب الضيقة..
صفارات الإنذار مدوّية..
فصار وحيدا تحت ركام الهراوة..

* المفارقة والمقاربة:
لقد استعمل الكاتب هنا المفارقة الناتجة عن تناقض القيم عن طريق السخرية: جمع حلقة يروي..، رفع سيفه..، هرب الحاضرون.. تحت ركام الهراوات.

قلت لولا بعض الأشياء التي أشرت إليها لكانت حتى المقابلة تدويرية حيث نجد:
- فرش حصيرا،
جمع حلقة يروي الأزلية والعنترية، ويحكيمغامرات السندباد،

- رفع سيفه في السماء مهللا و مكبرا،
هرب الحاضرون بين الدروبالضيقة،

صفارات الإنذار تدوي
وجد نفسه وحيدا تحت ركام الهراوات

مما يتضح لنا أن كل جملة تقابلها الجملة الموالية، ونلاحظ أن الجملة الأولى لا تتكامل في المعنى إلا بالجملة الموالية لها.
ونسجل هنا المقابلة التي صيغت بدون متناقضات، ولا مضادات لفظا، أما في المعنى فهناك مفارقة تبين تناقض القيم بين الماضي والحاضر.. نجد في الجملة الأولى: فرش يقابله في الجملة الثانية: جمع يروي. ونجد في الجملة الرابعة: رفع يقابله في الجملة الخامسة: هرب. وفي الجملة السادسة: تدوي يقابله في الجملة السابعة: وجد.
من هذه الزاوية نقول أن الكاتب قد ساق النص بطريقة تناصية داخلية وخارجية، فالداخلي هو حوار النص غير المباشر الذي جعل الجملة مكملة المعنى لبعضها البعض، والخارجي هو الحوار بين الواقع الذي عاشته المجتمعات والماضي المجيد والحاضر الكئيب... هذا الحوار هو الذي نقرأ فيه المقابلة بين المتناقضات...


* الحذف والإضمار:
نجد هذا النص خاليا تماما من الحذف والإضمار، ما عدا العنوان الذي استبدل فيه المنطوق بالمضمر...

وبالتالي أقول أن هذا النص جميل من حيث المبنى لفظا ومعنى
دمت مبدعا ومتألقا
مودتي وتقديري
//////////////////
محمد يوب

عجز لساني عن التعبير أخي محمد تجاه هذا الإبداع الجميل تجاه هذه القراءة النقدية البالغة الدقة و التفاصيل التي أعجز صراحة عن الخوض فيها و البوح عنها لقد دخلت في تفاصيل القصيصة وفككت بنياتها الفنية والجمالية بهذه القراءة أبصم لك أخي محمد أنك ناقد مبدع بامتياز عرفت فيك المبدع القاص و أنا الآن أكتشف فيك يوما بعد يوم صفات أخرى جديدة ولا أعرف ماذا تخبي في جعبتك؟
بالفعل إن هذه القراءة تنحو منحى فكريا جميلا متأملا نجحت في اختيار النص أولا وكان اختيارك دقيقا مبنيا على إحساس كاتب مبدع محترف في مجال القصة القصيرة جدا ولعل هذا النص الذي اخترته أحبه كثيرا كنت أتمنى أن يكون هو نص " تحت المجهر"
مودتي أخي سأنقل هذه القراءة إلى بيبليوغرافيا الأستاذ القاص الناقد محمد المعمري في دفاتر تربوية

تعليقات