قراءة في قصة غدا يذوب الثلج














غدا يذوب الثلج 
عبير محمد
كنت أشعر بحرقة مؤلمة في عيني ، و أنا أقف وحيدا أمام النافذة ، انظر إلى بياض الثلج اللامتناهي ...
السماء رمادية ، و الثلج مازال يتساقط أبدا كما كان يتساقط قبل عام و كذلك قبل خمس و عشرين سنة . عندها كنت طفلا صغيرا أذهب إلى المدرسة . 
لقد أوقد برد الشتاء ، وبياضه ذاكرتي : كم لعبت مع إخوتي و أقراني بالثلج ، أمام الدار و في الساحات و الازقة . نرمي بعضنا بعضا بكراته ، و أحيانا نصنع تماثيل أو ما شابه ، و نحن نستمتع بالبخار الذي ينطلق من أفواهنا و انوفنا ، كأننا ندخن كالكبار .
و عندما كنا نبرد نعود إلى بيوتنا طلبا للدفء ، حيث هسيس المدفاة ، وأبي و أمي ...
حصولك على الدفء في الأجواء القارسة يمنحك سعادة داخلية عارمة .
* * *
.. و بقي الثلج يتهاطل ... تندفه السماء كعجوز اسطورية ، و انقطعنا نحن عن الذهاب إلى المدرسة إلى فترة لا أذكر مدتها جيدا . لكني أتذكر كيف راح الملل ينفذ إلى روحي عبر مسامات الشوق إليك يا صديق طفولتي . فوقفت أمام هذه النافذة ، كما أقف الان و شرعت بالبكاء ، و شعرت بحرقة في عينيي من انعكاس الضوء الساطع على الدموع الباقية على جفونها ، كالحرقة التي أشعرها الأن و أنا أتذكر أيام طفولتنا ... 
إنها تبدو لي كحلم طويل ، و لكنه غير حقيقي .
* * *
" هل تذكر كيف كنا نقضي الوقت معا في المدرسة ، و حتى بعد المدرسة نبقى نلعب حتى غروب الشمس . كنت تقص علي حكايا جدتك عن الجن و السحرة ، و لا أدري إن كنت تضيف عليها من خيالك . كنا نندهش معا ، و نخاف معا من اشتداد العتمة ، فنهرب إلى بيوتنا مذعورين مسرعين .
هل تذكر كيف تشاجرنا ليوم واحد فقط ، لأننا اختلفنا هل كانت ريم تحبك أنت أكثر ، أم تحبني أنا . 
و هكذا تعاركنا ثم بكينا واستمتعنا بالبكاء معا .. و في اليوم التالي عدنا كما كنا صديقين حميمين .. هل تذكر "
* * *
وأقبلت أمي نحوي و سألتني : ما بك .. لم َ تبكي يا حبيبي ؟ 
فأخبرتها و أنا أمسح دموعي بكمي الطويل، و أنشق أنفي أني أريد أن أراك و ألعب معك .
مسحت أمي بيدها على شعري ، و قالت : بيته بعيد و الطريق الان موصدة .. غدا يذوب الثلج و تراه في المدرسة.
نعم إنه الثلج الذي منعني عن صحبتك ذلك الوقت .
و الان ها نحن الان قد كبرنا . أنا مازلت في نفس المنزل القديم ، وربما أنت انتقلت مع اسرتك إلى مكان أخر في طرف المدينة ... ربما هذا لا يهم ، لكننا ماعدنا نلتقي لاننا ببساطة ما عدنا نذهب إليها . 
إيه يا صديقي طفولتي القديم ، كم اشعر بالحزن أننا ما عدنا نلتقي ، و أن صحبتنا ذابت مع الثلج . لا أدري لماذا ؟ ربما أننا ما عدنا صغارا ؟
ربما هناك أسباب أخرى ؟ لا أدري ؟ 
لكن ما أنا متأكد منه الأن أنه ليس الثلج الذي يتهاوى أمام نافذتي الان . \

التحليل
النص الذي بين أيدينا يدخل ضمن القصة القصيرة ، التي تجمع بين السرد القصصي ، و الحكي الخاطري ، حيث تشعر بأن القصة من حين لآخر تميل إلىأسلوب الخاطرة .
في هذه القصة نرى القاص يقف على نافذة البيت ، ويقوم بعملية الفلاش باك ، حيث يتذكر علاقته مع صديقه في مرحلة الطفولة ، حين كانا يلعبات ويمرحان ، وأحيانا يتخاصمان حول صديقتهما في المدرسة .
إن القاص يتذكر لحظات سعيدة من عمره ، كانت الأم تلعب دورا كبيرا في تحضير كل متطلباته ، عندما يهم بالذهاب إلى المدرسة ، كانت تصفف شعره وتمسح دموعه عندما يتعرض لإهانة من أحد أصدقائه.
إنها ذكرى الطفولة وذكرى المدرسة ، التي كان البطل يشتاق إليها عندما تتهاطل الثلوج ، فكانت الثلوج في القصة مانعا طبيعيا ، يمنع البطل من متابعة دروسه من جهة ، ومن مرافقة أصدقائه من جهة أخرى ، فكانت الأحلام تتساقط مثلما تتساقط الثلوج على النافذة .
و الجميل في النص هو لغته ، التي تتمايل بين السهل و السهل الممتنع ، فالألفاظ فيه انفجارية ، لا تحمل الدلالة في ذاتها ، بل لها دلالات متعددة بتعدد القراءات ، فاللغة لها حمولة فكرية و اجتماعية و نفسية ، يشعر القارئ من خلالها أنه يريد التعبير عن أشياء كثيرة ، لكن حجم القصة منعه من البوح عن كثير من الأشياء ، فكانت القصة هي هذا الوعاء الذي صب فيه القليل من الكثير ، قليل من الأحداث لكنها ذات دلالات متعددة .
و النص بكثافة مضامينه يبعث على التأمل ، و الوقوف مليا على كثير من الألفاظ ذات الأبعاد و المفاهيم المتعددة ، فتشعر بأن القاص لا يفصح عن كل شئ ، بل يضمرأشياء كثيرة بين سطور القصة ، هذه الأشياء المضمرة الخفية يلتقطها القارئ من حين لآخر ، و يقرؤها انطلاقا من منظوره الخاص .
القاص يحمل رؤية إلى العالم ، رؤية متعددة الأصوات ، لكنها في نفس الوقت رؤية منسجمة ومتناغمة فيما بينها ، لآنها تساهم في توحيد الأصوات المختلفة من أجل خلق عالم جميل موحد ومتناغم.
ولهذا نرى بأن القاص قد ترك باب القصة مفتوحا في نهايتها لكثير من القراءات و التأويلات.
وفي النهاية لا يسعنا إلا التنويه بهذه القصة ، وبصاحب القصة على هذا المجهور الكبير في نقل هذه اللوحة المتحركة ، المرسومة بكلمات انسيابية ، ترفع الواقع من واقعيته اللآلية الانعكاسية ، إلى الواقعية المتخيلة التي تجمع بين حرفية و أدبية الواقع بأن تضيف إليه ما يسمى بأدبية العمل الأدبي.
محمد يوب