عندما يعجز الإنسان عن تحقيق آماله وطموحاته على مستوى الواقع ، يلجأ إلى
المتخيل الفردي أو إلى المتخيل الجماعي الشعبي ، ويفسح له المجال ، للتحليق عاليا
في أجواء من الصور و الأخيلة الجميلة.
وما مسلسل باب الحارة إلا نموذج من
نماذج هذا الأمل في تحقيق مشروع قومية عربية ، الذي استحال تحقيقها على مستوى
الواقع فلجأ طاقم الإنتاج و الإخراج و الممثلين ، لتحقيقها على مستوى المتخيل ،
للتعبير عما يخالجهم من متمنيات اصطدمت مع أهداف ومصالح جهات أخرى محلية وإقليمية
، ودولية ، فنقلوا هذه الأحلام من مستوى الواقع إلى مستوى الأشرطة السينمائية و
التلفزيونية .
إن أول عتبة تواجهنا عند دراسة مسلسل باب الحارة ، هي عتبة العنوان الذي
يبهر المشاهد بشكله السميائي العريض ، الذي يحيل إلى دلالة سميائية أخرى ، تشير إلى عظمة وقوة سكان حارة الضبع .
هذا الاسم الذي يرمز بشكل إيحائي
إلى هذا الحيوان المفترس الخطير ، الذي لا يميز بين اللحم الطري و اللحم النتن ،
كما أن عنوان المسلسل كتب باللون الأحمر القاتم ، الذي يشير إلى لون الدم ، لون
المواجهة والمغامرة الشرسة ، دون حساب لعواقب هذه المغامرة ، وخاصة عندما يتعرض
أهل حارة الضبع لهجوم من أي عنصر خارجي غريب عن الحارة .
و مما يزيد من عظمة وقوة العنوان ، المقطع الموسيقي الذي انتقاء المخرج
بدقة متناهية ، لأنه يلائم حركية المشاهد وشراستها ، فكانت الأصوات الكورالية ،
والمقاطع الموسيقية على السلم الموسيقي العالي (grave) الذي أعطى للمقدمة ما تستحقه من
العناية ، لشد انتباه و اهتمام المشاهد من أجل متابعة مركزة تساير أحداث المسلسل طيلة ثلاثين حلقة .
إن عتبة العنوان بأيقونيته الكتابية الكبرى، والصخب
الكبير الذي تحدثه الأصوات المرافقة للمقطع الموسيقي ، علامات تمهد المشاهد
لمتابعة مسلسل ضخم وكبير، من حيث مكانة الممثلين و أدوارهم ، و الحمولة السياسية و
الدلالية التي يريد المخرج إيصالها إلى المشاهد العربي ، بأسلوب إيحائي يميل إلى
الترميز ، وضرب الأمثال بأشكال حكائية شعبية .
إن المشاهد العربي البسيط يتعامل مع المسلسل من زاوية
ضيقة ، يتعامل مع المشاهد على أساس أنها تصوير لمشاهد و مقاطع من الحارة الشامية
في مطلع القرن العشرين إبان فترة الاستعمار ، بينما المشاهد العضوي الذي يقرؤ ما
وراء الأحداث ، يهتم بما توحي به هذه المشاهد من دلالات ترميزية ، يستشفها من خلال
هذه المشاهد التي تنهض على مستويات مختلفة
، لإعطاء صورة لخطاب ضمني ، مضمر تتضمنه المشاهد التلفزيونية.
فحارة الضبع أولا هي إحدى حارات الشام ، التي اعتاد
الشاميون تسمية حاراتهم بأسماء حيوانات شرسة ، للدلالة على شراسة أهلها عندما
يتعرضون لأي اعتداء ، وفي نفس الوقت هم كرماء عندما يلجؤ إليهم كل من يحتاج إلى مد
يد المساعدة ، فتجدهم سباقين إلى تقديم
المساعدة المادية و المعنوية ، و هذا ما لاحظناه من خلال مواقف العقيد ( أبي شهاب
) ، الذي كان يتعامل بأسلوبين أسلوب القوة عندما يحتاج الموقف إلى القوة و الصلابة
، كما يعتمد أسلوب اللين عندما يدفعه
الموقف إلى إتباع أسلوب اللين .فكان ذكيا يعتمد سياسة العصا و الجزرة ،بأن يتخذ
الموقف المناسب في المقام المناسب ..
وحارة الضبع تسير ضمن قانون محلي ، يناقشه سكان
الحارة في المضافة ، التي تعتبر بمتابة برلمان محلي ، يضم رمزا دينيا متمثلا في
الشيخ عبد العليم ، الرجل التقي ،و هو الرمز الديني الذي تتكتل حوله كل الفرق الدينية
و السياسية ، فكان بالنسبة للحارة المرجع الذي تنتهي عنده كل الاحتمالات وخاصة
عندما يزكي مواقفه بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية.
ونلاحظ بأن السلطة الدينية لا تتغير بتغير أحداث
المسلسل ، لكن سلطات أخرى تتغير بتغير الشخصيات ، فتجد السلطة العسكرية التي
يمثلها أبو شهاب ثم بعد ذلك معتز ، وهذه السلطة العسكرية التي تتخذ شكل نظام
الفتوة بالمعنى الايجابي الذي يدافع عن المظلوم ، وتستظل تحتها كل فئات المجتمع .
والمتتبع للمسلسل يلاحظ بأن هذه الرموز العسكرية ،
المتمثلة في العقيد ( وهو اسم يحيل إلى دلالات موجودة في واقعنا السياسي العربي )
رغم غيابها في السجن ، أو الهروب ، أو الموت ، لا تؤثر على السير العادي للحياة في
الحارة ، لأن العقيد بالنسبة لسكان حارة الضبع يكون مجرد رمز فقط ، قد تسير الحياة
السياسية بدونه إن دعت الضرورة ذلك ، وهذا هو الدلالة المقصدية من المسلسل ، وهو
التأكيد على أن الدول العربية يمكنها أن تستمر وتكون قوية دون رموز ، وذلك عندما
تكون متحدة و متلائمة ، وهذا يظهر من خلال مواجهة سكان حارة الضبع للدرك الفرنسي ،
وصد هجوماته المتكررة دون حضور العقيد أبو شهاب ، بل أكثر من هذا هو أن المسلسل
بقي قويا يجذب اهتمام المشاهدين رغم خروج أبطال رئيسيين منه إنجاز اللاحق من
الأجزاء .
و مظاهر الوحدة العربية تظهر من خلال مساعدة الشعب
الفلسطيني ، بالمال و النفس و العتاد ، فكانت الأسلحة ، تهرب عن طريق الأنفاق من
حارة الضبع إلى الحارات المجاورة ، ثم بعد ذلك إلى الغوطة ، ففلسطين ، من خلال
قنوات متنوعة ، عبر الحارات المجاورة أو عبر شق أوحفر الخنادق و القنوات .
وقد ساهم في تهريب الأسلحة كل من المسلمين و النصارى
، وكانت أم جوزيف النصرانية التي ساهمت بشكل كبير في مقاومة العدو ماديا و معنويا
، إلى درجة أن الدرك الفرنسي أحس بخطورة هذه المرأة المقاومة ، فاستغل بيتها كمخزن
للأسلحة ، ومقر لمبيت الجنود .
وبين سكان حارة الضبع و المستعمر الفرنسي ، نجد
مجموعة من المواطنين الذين كانوا يمثلون الطابور الخامس ، لما يقومون به من أدوار
تجسسية استخباراتية ، وهم يتحركون انطلاقا من منظور ضيق ، قائم على المصلحة الشخصية
و الربح المادي ( علاوات) أو كسب معنوي ( وظائف) في الشرطة أو في سلك الدرك .
لكن من حين
لآخر يستيقظ الوعي القومي و الوطني ، وينهض ضد المستعمر ، ومن ثم ينحاز ليجد نفسه
ضمن عامة الناس ، ويصبح مناضلا من موقع وظيفته ، مثل مانرى في مشهد الدركي (سمعو) الذي فر في النهاية من وظيفته العسكرية
، متوجها إلى الغوطة مساعدا لأصدقائه في الكفاح المسلح ، مستعينا بتجاربه في هذا
المجال.
و الملاحظ من خلال تتبعنا لهذا المسلسل ، هو تصويره
للوضع العربي المتأزم الذي تنعدم فيه صور الثقافة و العلم ، فلا نجد أثرا للمكتبات
و لا للمدارس ولا للحديث عن الفكر و المعرفة ، باستثناء دور الدكتور الذي تعلم
خارج الحارة ، وكان له دور إيجابي في الحركة الوطنية ، وذلك بعلاج المرضى و الجرحى
، ونقل أخبار المقاومين وخططهم الحربية التي كانت تعتمد أسلوب حرب العصابات
،بالاضافة إلى الدور الذي كان يقوم به الشاب ( أدهم ) من حارة الماوي ، هذا الاسم
الذي يحيلنا بدوره إلى الحركة الماوية في الصين. .
و الفضاء
الذي يتحرك فيه الأبطال ، هو فضاء يهتم بشيئين هما :البطن و الفرج ، وكأن الإنسان
العربي لا هم له إلا هذين الأمرين ، ، وهذه المشاهد تدفعنا للحديث عن تيمة المرأة
في المسلسل ، التي صورها المسلسل بأنها تلك المرأة المشتهاة ، المخلصة لزوجها في حضوره أو أثناء غيابه ، فهي
المرأة التي تكنس و تطبخ و تلد ، وتسمع أوامر الرجل ( أنت تاج راسي ) بل هناك مشهد
في المسلسل يبين المرأة وهي تغسل رجلي زوجها .
وهناك ظاهرة أخرى هي الزواج المبكر الذي يظهر عقلية الإنسان
العربي المتعصبة ، التي ترى في الفتاة مصدر الفضائح لذلك وجب التخلص منها وتزويجها
في سن صغيرة .
ولمواجهة المستعمر الفرنسي على المستوى الاقتصادي بين
المسلسل كثيرا من الصناعات التقليدية المغرية كما نرى في النقوش التي تزين مضافة
(أبو شهاب) ، هذه الصناعة التي تغني الإنسان العربي عن الصناعات العصرية الفرنسية
، وبهذه الوسيلة يمكن القضاء على الاقتصاد الفرنسي ، الذي يمول الحرب و الاستعمار.
و كان لبعض الصناعات التقليدية دور كبير في حماية ما
يحتاجه سكان أهل حارة الضبع ، من أكل وشرب أثناء فترة الحصار ، التي اكتشف سكان
الحارة كثيرا من الوسائل لتكسيرها ، مثلا بواسطة تمرير البضائع عبر السطوح ، أو حفر خنادق تحت الأرض و هذه إحالة
إلى الخنادق التي اعتمدها سكان أهل غزة في فترات الحصار الإسرائيلي .
و في النهاية نقول : إن المتمعن في مسلسل باب الحارة
في كل أجزائه ، يشعر بأن المخرج يوجه رسالة إلى المشاهد العربي ، مفادها أن قوة العرب في توحدهم ، وأن ضعفهم يكمن في
تفرقهم . وهذه الرسالة القومية العربية ، تكلف بإيصالها إلى المشاهد ، كل أبطال
وطاقم المسلسل ، من خلال نبرة الصوت السوري الجهوري ، ومن خلال رؤية وزاوية
أيديولوجية يؤمن بها هؤلاء الأبطال .
فيشعر
المشاهد العربي بأن لغة المسلسل ، تتضمن رؤية فكرية مستقبلية ، تؤسس لمشروع رؤية
قومية عربية ، استحال تحقيقها على مستوى الواقع ، حاول المخرج تحقيقها عبر مسلسل
تلفزيوني ، تنتهي هذه الوحدة بانتهاء حلقات المسلسل ، ليعود العرب مرة أخرى إلى
الفرقة و الهوان ،بانتهاء المسلسل و
انتهاء شهر رمضان.
محمد يوب
31.08.10
تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لحضورك واهتمامك