قراءة عاشقة لقصة سوء فهم للقاص العربي عدنان كنفاني



النص:

 (شّق بكتفيهِ طريقاً بين الجماهير المحتشدة..
اجتاز الطوق الأمني المحكم حول جلال الموكب، ثم ألقى بنفسه أمام سيارة الزعيم، ومّد يده إلى جيب قميصه البالي.!
خمسون رصاصة انطلقت على الفور طرّزته قتيلاً على إسفلت الشارع..
فتّشوه على عجل، فكّوا قبضة يده عن ورقة مكتوب فيها:
أعطني فرصة عمل، أنا لم أتناول طعاماً منذ يومين..! (
القراءة
عندما نقرأ القصة التي بين أيدينا و المسومة "بسوء فهم" للقاص عدنان كنفاني يتبادر إلى الذهن الدلالة التي يؤديها العنوان عندما يقصد القاص تمويه الموضوع وتشتيت أنظار القارئ ليعيد تركيبه من جديد بعد الانتهاء من قراءة القصة ليجعله مشاركا في لعبة السرد القصصي.

و"سوء فهم" تحيل إلى في مظهرها إلى موضوع في الحب أو إلى أي مجال من مجالات الحياة العادية، لكن عند الانتهاء من قراءتها و التمعن فيها و تفكيك تراكيب و تعابير القصة يبدو لك أن العنوان كان أعمق مما يتخيله القارئ،لأنه يخوض في موضوع بالغ الخطورة وهو أن يسئ الحاكم فهم الرعايا الذين يعانون من شظف العيش و من قسوة الحياة.

فالقصة توحي للقارئ وكأن السارد يصور مشهدا من مشاهد القص الحركي الذي يتابع مجريات الأحداث ونفسيات الأبطال،فنرى بأن البطل يتحرك داخل صفوف الجماهير وكأنه مقص يشق الثوب من الوسط ،وهنا تظهر براعة اللغة عندما تنزاح وتصبح لغة صائتة تواكب تحركات الأبطال، فعندما تنهض جملة "شق بكتفيه" يعني أن البطل يعاني مرارة الفقر وأن الجماهير المحتشدة كلها تشرب من نفس الكأس، وما ينقصها هو هذه الدفعة التي حثت البطل إلى المغامرة للتلاقي مع الحاكم، وتقديم الرسالة التي يأمل من خلالها الحصول على وظيفة تصون كرامته وتعفيه من مد يده للناس،أو مدها على أموالهم بدون وجه حق أو  باطل.

فكلمة شق تدل على فعل عنيف يعبر عن التلقائية في الفعل أكثر من التفكير فيه ينهض من بنية مبنية على الازدحام وعلى الأعداد الهائلة التي تنتظر الحاكم، ليس للترحيب به وإنما للتعبير عن مدى القهر الذي يعانون منه،ودليل ذلك أن عملية شق الطريق كانت صعبة ومنهكة إلى درجة أنه كان يستخذم كتفيه للعبور و الوصول إلى الحاكم، الذي يبدو في النهاية أنه كان مطوقا بجدار أمني هين بحيث أن الوصول إليه كان اجتيازا بسيطا عبرت عنه كلمة اجتاز التي تدل على السهولة وعدم المواجهة ،بمعنى أن الحماية المصطنعة التي تبدو للعيان جبارة ورصينة  هي في الحقيقة عكس ذلك،إنها كخيوط العنكبوت بل أهون من ذلك،  فبقدر ما تتطور أساليب الحماية بقدر ما تتطور أسليب الاختراق،وهذا ما يظهر من خلال القصة بحيث أن البطل تمكن من الوصول قريبا من الحاكم،وعلى مرمى حجر منه،بحيث لو كان ينوي أذيته لفعل بكل يسر وسهولة لكنه كان عزيزا شريفا يريد إيصال صوته إليه لكن يد الغدر كانت أقرب إليه من يد الحاكم، حيث كان في آخر لحظة لقمة سائغة في فم الحراس الذين انتبهوا إلى الخطر الذي يحدق بالحاكم، فكان رد فعلهم هو رمي البطل بالرصاص وتزيين جثمانه بعدد هائل من الطلقات الغادرة(خمسون رصاصة) التي لم تترك له فرصة للنجاة،وهذا العدد يبين الانزال الذي نزل به موكب الحاكم الذي يختبئ وراء هذا العدد الهائل من الحراس في حين أنه كان بإمكانه التحرك على الأرض دون حماية لو كان عادلا وفي نفسه شيئا من العدل و الديموقراطية..
ولقطة إلقاء البطل بنفسه تحت موكب الحاكم كانت لقطة درامية تعبر عن مدى التضحية بالنفس من أجل الحصول على ما يقتات به وما يسد به رمقه،فلم يكن يخلذ بباله أن الاقتراب من الحاكم في حد ذاته جريمة تعرضه للقتل ،وهذا ماحصل وما يحصل دائما، فلم يكن مقتله برصاصة واحدة بل بزخات هائلة من الرصاص،لأن الحراس في اعتقادهم الذي تربوا عليه، يظنون أن البطل يحمل قنبلة سيرميها أمام موكب الحاكم.

لكن  قفلة القصة كانت تتسم بالفعل  التراجيدي، بينت فيها استصغار الكبار للصغار و احتقارهم والتعامل معهم كما يتعاملون مع الحشرات و الهوام التي تهيم على الأرض.
إن القصة تحيا بنبض الحياة وبمواكبتها لواقع الإنسان وتصوير واقعه المعيش بلغة تجمع بين الواقعي و الأدبي وهو ما يسمى بأدبية العمل الأدبي ،أي رفع الواقع من واقعيته إلى عالم التخيل الذي يصاغ بأسلوب أدبي يرفع من ذائقة القارئ ويزيد من لذة القراءة.
قصة حركية تنهض على مجموعة من الأفعال التي تتحرك من الماضي في مستهل القصة لتدخل إلى الحاضر في النهاية وبالتالي تبقى خالدة وقابلة للقراءة في أي مكان وزمان،كما أن تحركها يبدو متناقضا من حيث الرؤية إلى الحياة فرؤية البطل كانت هي البحث عن لقمة العيش دون التفكير في أدية الحاكم أما رؤية الحاكم وحراسه فكان خلاف ذلك لقد كانت رؤية تشبت بالحياة وكأن هؤلاء الحكام سيخلدون في هذه الحياة.إنها بالفعل رؤية القاتل و المقتول،رؤية من يتشبت بالحياة ورؤية من يتشبث بخيط رفيع لاستمرار الحياة ،خيط قد ينقطع في أي وقت وحين.
محمد يوب