إن من أبسط تعاريف الشعر انه تعبير عن مشاعر الإنسان في حالاته المختلفة
عند الفرح وعند الحزن،وهو هبة من الله تعالى يهبها لمن يشاء من عباده،لا يميز فيها
بين الرجل و المرأة باعتبار أن المشاعر ملك مشاع بين الجميع،لكن الذي يستطيع
التعبير عنها بلغة شاعرية حساسة هو الشاعر،لما يتوفر عليه من ملكة لغوية مكتسبة عن
طريق الفطرة وعمقها عن طريق الدراسة و الممارسة اليومية.
ويعتبر الشاعر عبد الله فراجي من بين الشعراء الذين عبروا عن صدق الإحساس
وجمال اللغة، اللغة المعبرة من خلال ديوانه الموسوم ب"المرآة و البحر"
الصادر عن مطبعة الأزهر و الذي يضم سبع عشرة قصيدة مطولة من شعر التفعيلة، الذي يساعد
على إطلاق العنان لخيال الشاعر للتعبير عما تجود به قريحته من أشعار يعالج فيها
كثيرا من القضايا التي تخص النفس الإنسانية و المجتمع.
لقد استهل الشاعر ديوانه بقصيدة تحت عنوان"حروف تنبت زهرا"حيث
كانت الحروف متناثرة وموزعة في فضاء القصيدة،تتشكل وتتحرك من اللفظة إلى الجملة في
سياق بنيوي لا يمكن فصل الكلمة عن سياقها العام، الذي تمتزج فيه لتشكل التعبير المؤدي
إلى المعنى المفضية بدورها إلى الحمولة الفكرية التي تتضمن رؤية الشاعر إلى
العالم،هذه الرؤية التي تتصف بالشمولية.
وتعتبر الحروف مصدر الكلمة الجميلة المعبر والتي تؤثث فضاء القصيدة وتنسج
خيوطها،وتدفع القارئ المتمعن في هذه الحروف إلى البحث عن مصدر هذه الحروف و الغاية
من إرسالها،مما يجعله عنصرا متورطا في تشكيل ونظم هذه الرؤية،التي تنهض وتتحرك في
إطار جدلي تتشارك فيها مختلف المواقف و التوجهات الفكرية و الدلالية المنتجة
للصراع و التناقض.
وبذلك تكون الرؤية القائمة على أساس التناقض و الحركية مصدرا لرؤية تتحرك
من مستوى البنية السكونية(السانكرونية) للقصيدة متجهة إلى البنية(المتحركة)
الدياكرونية ،ومن هنا تتقاطع الرؤى بين التوجه بالقصيدة في السير الأفقي للبنية
الفنية للقصيدة إلى السير العمودي عندما تندرج القصيدة في المجتمع وتنقل المتغيرات
الحاصلة فيه.
وهذه الحركية و الدينامية كانت في القصيدة وعبر مساحات متعددة في الديوان
ككل ،كانت وليدة طرح مجموعة من الأسئلة/التساؤلات التي اتسمت بالصراع و التناقض من
وجهة نظر الشاعر:
(فأنبتت زهرا على حجر الفؤاد
يستكشف الحروف من نقع الغبار
صنما على هدير السؤال
....كانت شهابا يرسم المتناقضات)ص2
من خلال هذا المقطع الشعري تبدو حركية الحروف وهي تتحرك في اتجاه خلق
الصراع القائم على الجمع بين الثنائيات الضدية الحسية/الذهنية،التي لايستطيع الفكر
الجمع بينهما ،لكن خيال الشاعر كان بارعا في التقاط المشهد و التعبير عنه بصورة
تجمع بين منطق الفكر وإحساس المشاعر.
لقد استطاع الشاعر بمخيلته المرهفة أن يحرك الحروف ليكون عاملا مساعدا على
إنبات الأزهار على حجر الفؤاد،و الصورة هنا صورة ذهنية جعلت من القلب المتعارف على
انه رمز الإحساس و ليونة المشاعر،يتميز هنا بالقسوة و الجلف مشبها إياه بالحجر من
كثرة شدته وقسوته،كما استطاع الشاعر من تركيب صورة لا تنطبق في الواقع وهي أن تنبت
الأزهار على الحجر،لكن الشاعر استطاع أن يحقق ذلك من خلال الحروف و الجمل الشعرية.
ومن خلال الحروف استطاع الشاعر تحريك الثابت وأنسنة الجامد حيث إن المرآة و
البحر هما المكونان الأساسيان في الديوان ومنهما يتحرك الشاعر وعنهما يتحدث ،بل
يجعلهما الشخوص المتحركة و النامية في
المشاهد و المقاطع الشعرية ،فالمرآة تشبه البحر في الصفاء و النقاء،المرآة تعكس
حقيقة الإنسان البرانية بأن تلتقط مشاهد الجمال و البشاعة فيه،وتنصحه بطريقة صامتة
بضرورة تفادي الجوانب البشعة فيه والميل ما أمكن تجاه الجوانب الجميلة و الخيرة
فيه،فالمرآة في صدقها تحكي الواقع بصدق ودون زيف أو بهتان،لكن في النهاية تظهر
حقيقة الإنسان عندما تنكسر المرآة وتتشظى إلى جزئيات،وتكشف حالة التشظي التي
يعيشها الإنسان في هذه الحياة.
(المرآة انكسرت...
سقطت أشلاء في الوطن..
شنقوني ولا من يدري) ص11
و البحر يعكس حقيقة الإنسان
الجوانية،يعكس لون الزرقة التي تدل على الهدوء،يعكس هدوء الإنسان عندما يريد
التربص و الغدر،كما يعكس تقلباته الداخلية وفورانه .
(فأنا البحر...
مرآتي
يكسرها الشيطان
وليس لها شطآن
مرآتي..
حبلى بالهمسات
...والقلب يعج بنار مستعرة)ص12/13
وتزداد الصور الشعرية تأزما وحدة عندما تتداخل طبيعة المرآة التي تعكس
البراني مع طبيعة البحر الذي يكشف الجواني فتخلق حالة من الصراع المفضي إلى غلبة
المتحرك على الجامد،غلبة البحر الهائج المضطرب،وانهزام المرآة الكاشفة
العارية،تنهزم أمام الضربات المتكررة،وتتشظى إلى قطع متناثرة تعكس تشظي نفسية الشاعر/الإنسان،
وتعدد حالاته النفسية بين الفرحة و الحزن بين الأمل و الألم.هكذا يستمر الشاعر في
التعبير عن التقلبات الداخلية و الانكسارات المتعدة بلغة تنزاح باللفظة من معناها
المعجمي بلغة انفجارية تتضمن دلالات متعددة، تتعدد بتعدد القراءات،بحيث لا يمكن
بتاتا فهم اللفظة في غياب سياقها ومنظومتها البنيوية.
محمد يوب
18/03/11

تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لحضورك واهتمامك