التوافقات البنيوية و الأيديولوجية في فضاء القصة القصيرة "الزغاريد المؤجلة" لنجاة سرار نموذجا




عندما نقرأعملا أدبيا يتبادر إلى ذهن كثير من القراء أن المبدع لا يبذل أدنى جهد في نقل الواقع المعيش بكل تجلياته، بأسلوب أدبي يختلف مستواه بين البساطة و التعقيد،مقدما أياه في طبق من ذهب بين أيدي القراء.
غير أنه في حقيقة الأمر إن الأديب وهو مقبل على عمل أدبي ما، لابد وأن يضع مخططا عاما ممنهجا على مستوى البنية الفنية الداخلية وعلى مستوى المرجع الذي يغني هذه البنية بالرغم من تسلح الأديب باللغة الأدبية.
فالأديب يربط علاقة وثيقة بينه وبين العمل الأدبي من جهة، وبينه وبين القارئ /المتلقي من جهة أخرى، لتشكيل رؤية منسجمة ومتناغمة إلى العالم،ولا نقصد بالانسجام التوافق التام بين هذه الرؤى المختلفة  و المتنوعة،وإنما نقصد بها تعدد الزوايا النقدية إلى الواقع و الوقائع،هذه الزوايا النقدية التي تعبر عن مجموعة من الأصوات التي تتصف بصفة الصراع و التناقض المفضي في النهاية إلى التوافق في الرؤية إلى العالم المطبوعة بطابع التناغم و الانسجام،إنها رؤية مختلفة ومتناقضة من حيث المبدأ لكنها منسجمة من حيث الهدف،في إطار منظومة بنيوية واحدة مشكلة من عدة ألوان وفسيفساء أيديولوجية تؤثث فضاء العمل الأدبي.
وتعتبر"الزغاريد المؤجلة" للقاصة المغربية نجاة السرار نموذجا لهذا التوافق بين القاص و المتلقي ومكونات العمل الأدبي بما فيها من بنية فنية ومرحع خارجي تعكسه بشكل أدبي هذه البنية الفنية الداخلية،بما تحتويه من تحكم جيد للسرد وتوزيع للأدوارو الحوارات بين الشخصيات المتقمصة للأحداث الاجتماعية التي تنهض عليها هذه المجموعة القصصية.
فنجد بأن القاصة تعتمد في جل زغاريدها على ضمير الغائبة، حيث نرى بأنها تختبئ وراء هذه الضمائر وتقدم الشخوص و الشخصيات إلى الأمام وتدفعها إلى التعبير عما في الواقع من اختلالات ينبغي إصلاحها،وكانت هذه الشخصيات/الأبطال متورطة مع القاصة في نسج خيوط هذه القصص،ومشتركة معها في إعطاء تصور ممكن لهذا الواقع المعيش،الذي نخرته أياد آثمة نهبت خيراته(يسقط في إحدى الحفر الآسنة بأمطار الليلة الماضية....يسب عمال البلدية ومسؤوليها الذين فوتوا تنظيف الذرقات وجمع الأزبال لشركات أجنبية)ص63
إن القاصة تعكس بأسلوب أدبي ما آلت إليه مصالح المواطنين من إهمال،نظرا للصفقات الوهمية التي ينتفع منها المنتخبون في هذا البلد ويكون الشعب الدافع للضرائب ضحية لهذه الخروقات و الاهمالات.
فالقاصة بهذا المعنى تنطلق من الواقع في اتجاه الفكر ،لتعود مرة أخرى إلى الواقع مستغلة في ذلك تقنية اللغة القصصية التي توظف الكلمات المناسبة لخدمة التعابير و الجمل القصصية المؤثثة لفضاء المجموعة القصصية،هذه اللغة التي من طبيعتها الأدبية أن تكون ممزوجة بالتصورات الخيالية و التعابير الإيهامية.
وبالرغم من اهتمام القاصة بالأساليب الفنية و الجمالية،وقدرتها على توليد اللغة،وامتلاكها أساليب السرد المختلفة،تبقى المجموعة القصصية مرتبطة بشكل واضح وفاضح للواقع المزري،ومرتبطة كذلك بالحالة السوسيونفسية للأصوات المتحاورة داخل فضاءات الزغاريد المؤجلة(كانت مهنته كبائع متجول بعد إحرازه على الاجازة في مادة الفيزياء..فمرة يضطر لأداء رشوة...زمرة يكون فارغ اليد فيذهب الميزان و العربة)ص48
وتظهر هذه الوضعية المزرية لواقع الناس من خلال عتبة العنوان"الزغاريد المؤجلة"التي جاءت بصيغة التعريف للدلالة على الكم الهائل و الامتداد في الواقع بين فئات كثيرة وعريضة في المجتمع،هذه الزغاريد التي لم يحن الوقت لخروجها،لأنها موقوفة التنفيد منذ زمن بعيد،منعتها منغصات الحياة وإكراهات الواقع المأساوي المتردي الذي اختلت موازينه،واختلطت فيه القيم الصالحة بالسلوكيات الفاسدة.وأصبح الانسان يقاس بمقدار ما يمتلك من رصيد هام في البنوك المحلية و الدولية.(لقد أجلت زغاريدنا طويلا يا فاطم،وضيعت وقتا طويلا،ثم متهكمة:إجازة في التاريخ ما شاء الله،أما كان جديرا لك أن تلتفتي لتاريخ ميلادك لتري أن الركب فاتك أو يكاد)ص52
من هنا نستنتج كما قال بول فاليري بأن"اللغة هي نظام علاقات وليست مجرد تلاعب بالألفاظ"بنية الشعرص35
فمن بين مهام اللغة نقل الواقع بآلية معينة يفهمها الأديب فقط دون غيره من عامة الناس،و القاصة هنا نقلت الواقع المحزن بلغة محددة سلفا ميزتها عن كافة الكتابات الأخرى الاجتماعية والأيديولوجية...(فادح هو الظلم ،وأفضح منه هو الاستسلام وتقبل المهانة،وسكوت المرء عن الخطأ هو تشجيع لمرتكبه وتزكية لسلوكه الخاطئ )ص 70
وما يميز هذه الكتابة هو ما سماء جاكبسون بالشعرية أي ما يجعل من كتابة ما كتابة أدبية ،فالقاصة لم تكن مرآة تعكس الواقع بشكل آلي وإنما كانت ترفعه إلى العالم المتخيل الذي يمزج بين الواقع و الخيال،بأسلوب من نوع السهل الممتنع الذي ينقل معاناة المجتمع بجميع شرائحه فوارقه الاجتماعية،كل واحد يفهم الزغاريد حسب مستواه الثقافي،وهكذا تتعدد القراءات بتعدد الرؤى و الزوايا النقدية.

والقاصة بهذا المعنى لا تتحدث عن نفسها فقط ولا تحيا لها،ولا تنقل إحساساتها فحسب،وإنما هي تنقل مع معاناتها معاناة الآخرين،تنقل بقلمها كل ما يمكن أن يخطر في النفس البشرية من أحاسيس و انفعالات.
من هنا يمكن اعتبار المجموعة القصصية بأنها جاءت لتنقل بشكل منسق أحزان الناس وهمومهم،وكانت مهمة القاصة الأستاذة نجاة السرار،هي أن تجعل التجربة القصصية جذابة تنبعث منها الحياة،عن طريق اختيار الكلمات الدالة و المشحونة بعمق التجربة و الاحتكاك بالواقع،هذه التجربة التي تخترق فكر المتلقي وتخلخله من أجل الوصول إلى لذة القراءة بالمفهوم البارثي(نسبة إلى رولان بارث).
محمد يوب
03/04/11

تعليقات