عندما يكون التكثيف سبباً في التسآل قراءة في " المر ... والصبر " لابراهيم درغوثي


أحمد السماوي
كلية الآداب صفاقس/ تونس

تمهيــد
اختلف المنظّرون للأقصوصة جنساً سرديّاً في ضبط خصائصها. فإذا هي، لدى صبري حافظ، ذات قواعد ثلاث هي وحدة الأثر أو الانطباع ولحظة الأزمة واتّساق التصميم . وهي، لدى تيارّي أوزوالد (Thierry Ozwald)، ذات قاعدتيْن اثنتيْن لا غير هما المشروع الواقعيّ والذروة الدراميّة . وهذا الحرص على تسييج الأقصوصة بقواعد مضبوطة لم يفلح البتّة في لجم الخروق التي ما فتئ خطاب الأقصوصة يفرضها على جنسها. ومن آيات هذا الخرق تجسيد مفهوم التكثيف الأكثر بروزاً من بين سمات الأقصوصة تقلّصاً في الخطاب. فإذا بجنس وليد هو سليل الأقصوصة يتخلّق في أعطافها فيماهيها ويخرج عليها في آنٍ معاً. هو ما يُدعى "القصّة القصيرة جدّاً" لمن آثر المصطلح الثنائيّ "قصّة قصيرة" و"الأقصوصة الومضة" لمن آثر مثلنا تسمية الجنس السرديّ الوجيز هذا "أقصوصة".
وأضحى هذا الجنس السرديّ الوليد، بحكم الإقبال عليه، موفّراً مدوّنةً صالحةً للدرس والتحليل. وفي ما أبدعه إبراهيم درغوثي من أقاصيص ومضات في مجموعاته وأعاد نشره في تحت سماء دافئة أو ما أضافه منها في المرّ... والصبر ما يوفّر مادّةً للنظر. وقد سبق لحسن نصر أن أشاع هذا النمط من الكتابة منذ سبعينات القرن الماضي كما في مجموعته 52 ليلة . وجاد أحمد جاسم الحسين من سوريّة بمجموعتيْن أخرييْن . ولعلّ الأمر لا يتعلّق بالإبداع الأقصوصيّ العربيّ فقط بل يتجاوزه إلى الإبداع العالميّ. فآنّي مينيار (Annie Mignard) تتكلّم على المدّ الذي شهدته "الأقصوصة اللحظة" منذ تسعينات القرن الماضي في فرنسا .
وما يتوافر من أقاصيص ومضات في "المرّ... والصبر " يغري بالدرس أي بتبيّن إنشائيّة هذا الجنس السرديّ الوجيز. وهو ما يفرض تحديداً للبنية التي ترد عليها الأقصوصة الومضة وبحثا عن الخصائص التي تميز هذا الجنس السرديّ من سواه وكشفاً لما عسى أن يقوم بينه وبين أجناس أدبيّة عرفها التراث السرديّ العربيّ أخيراً.

1. بنيـة الأقصوصة الومضـة
من المهمّ التنبيه، منذ البدء، لكون الملاحظات المسوقة تخصّ متناً أقصوصيّاً وامضاً بعينه هو مجموعة " المرّ... والصبر ". ومثل هذه الملاحظة تعني أنّ ما ترد عليه بنية الأقصوصة الومضة في هذه المجموعة قد يأتلف مع ما يأتي في مجموعات أخرى وقد يختلف. وليس شرطاً أن تكون النتائج المتوصّل إليها هنا تنطبق على الأقاصيص الومضات حيثما كانت. لذلك عندما نتكلّم هنا على معدّل الطول في هذه الأقاصيص الومضات آخذين عدد الأسطر مقياساً قد لا نجد انسجاماً كافياً مع من يجعل المقياس عدد الكلمات. ففي الأسطر امتدادٌ وتقلّصٌ بحسب طبيعة الحرف وحجمه. أمّا عدد الكلمات فلعلّه أن يكون دليلا أسلم للحكم على مدى الطول. فالأقاصيص في المرّ... والصبر تبلغ اثنتيْن وأربعين عدّاً. ومعدّل الطول فيها حوالي اثني عشر سطراً. وأقصى الأطوال اثنان وأربعون سطراً أي ما يعادل مائتيْن وخمساً وستّين كلمة . أمّا أدنى الأطوال فثلاثة أسطر أي ما يعادل ثماني عشرة كلمة .
وتمتاز هذه الأقاصيص بأنّها، إذ ترد وجيزة جدّاً، تنقسم إلى ما هو أوجز . أَوَنسمّي، آنذاك، الأقصوصة الأمّ "الأقصوصة الومضة العليا" والأقاصيص الفروع "الأقاصيص الومضات الدنيا"؟ إنّ من شأن هذا الاستفهام توكيدَ نسبيّة النتائج وعدم الاطمئنان إلى صرامة المفاهيم. إلاّ أنّ هذا الحكم ينبغي ألاّ يكون وسيلة نركن إليها للوقوف موقف الريب من كلّ ما ننتهي إليه. فثمّة من الملاحظات ما إذا تواتر حضوره كان الارتياح إليه ممكناً. ولعلّ ذلك أن ينطبق على قيام الأقصوصة الومضة على تقابل بين منطلقها ومآلها. وهذا شأن الكثير منها. ففي "المائدة" ، مثلا، ركم للأعمال التي تأتيها المنتظِرةُ مقدمَ المنجميِّ وقد أنهى دوام الليل وخيبتُها عندما ينسى طريق العودة .
والحديث عن التقابل بين المنطلق والمآل يفرض تحديد الشكل الذي يتمّ حسبه التحوّل. وهو، في الأقصوصة الومضة كما هو في الأقصوصة، فجئيٌّ. وللمفاجأة، في أقاصيص المرّ... والصبر الومضات تجلّياتٌ ثلاثةٌ مختلفة. فهي تأتي في آخر الأقصوصة الومضة. ولكنّها تأتي أيضاً في بدايتها. وقد لا تأتي البتّة أو هكذا به توهم.
ففي "المعتقل" (ص 10) إيحاءٌ بأنّ المتكلَّم عليه وفق كلّ المؤشّرات هو المحكوم عليه بالإعدام. وحتّى اختلافه عن زملائه هيأةً لا يبدّد هذا التصوّر. وعند تفسير الراوي، في خطاب إسناديّ، مونولوج الشخصيّة اتّضح أنّ الرجل يعمل جلاّداً وليس محكوماً عليه بالإعدام. وآنذاك فقط تعدّدت أنشطته العمليّة. فإذا هو يذبح ويذكر اسم الله. و"للكرسيّ" (ص 22) الطابع البنائيّ نفسُه. فقد ركم الراوي صفات المتكلَّم عليه الإيجابيّة إلى أن قال: «ثمّ جلس على الكرسيّ الوثير...». فهذه الجملة اليتيمة التي تغلق الأقصوصة الومضة تنقض البناء السابق كلَّه من أساسه. فهي تجيب عن سؤال المرويّ له المتلهّف: «ثمّ ماذا؟». ولكنّها، في جوابها، لا تشفي غليلا بل تفرض مزيداً من الأسئلة: أظلّ على ما هو عليه أم غيّره الكرسيّ إلى نقيض ما كان عليه؟ وفي صورة بقائه على ما هو عليه أيستحقّ أن تُقصَّ حكايتُه؟ أين التحوّل الذي يفترضه القصّ وجوباً؟ أيكون في الامتناع عنه تقويةٌ للدهشة؟ ولِمَ لا يكون الأمر كذلك؟ أمّا في "عاقر" (ص46) فلا يعرف القارئ أنّ المعنيّة بالعَُقر هي القابلة نفسُها. فقد بنى الراوي الأقصوصة الومضة على علاقة وجود بعدم. فثمّة أطفالٌ كاللؤلؤ والمرجان وصراخٌ وعيونٌ مغمضةٌ وخبطٌ بالأيدي والأرجل. ومقابل هذا كلّه استثناءٌ «إلاّ أنا» أي لا شيء من هذا كلِّه. ومن شأن هذا الاستثناء أن يجعل المفارقة هائلةً والأثرَ قويّاً.
والمفاجأة قد ترد في بداية الأقصوصة الومضة شأنَها في "الشهيد" . فقد بكم الراوي عندما دخل جبّانة الغرباء ووجد قبر العميل قد نبش. ولهذا البَكَم رديفُه في آخر الأقصوصة الومضة عندما «ابتلع الراوي لسانه». فقد اتّضح أنّ العميل قد ضُرِب له تعظيم سلام وغُطّي الصندوق الذي حمل رفاته بعلم الوطن، في حين ظلّ قبر الشهيد حيث هو. ويحضر الأمر نفسه في "نبوءة" . فهل النبوءة هي البارقة التي ستجد لها في نهاية الأقصوصة الومضة استجابة أم هل هي المفاجأة جاءت قبل الأوان؟
الملاحظ أنّ هذه الأقاصيص الومضات التي فيها ترد المفاجأة في الفاتحة وفي الخاتمة معاً هي تلك التي ينهض فيها العنوان بدور رئيس في كشف الدلالة. ولعلّ ذلك أن يكون أوضح في "ماء الحياة" . فمفاجأة الشخصيّة بما عثرت عليه لا يتّضح سببها إلاّ عندما تربط الصلة بين ماء الحياة والنسيان.
وآخر شكل لحضور المفاجأة إيهام الأقصوصة الومضة بأن لا خاتمة. ومثال ذلك ما ورد في "طين" . فقد هيمن في هذا النصّ الفعلُ الماضي المنقطع الدالّ على السرد. فكانت الأفعال المتعدّدة متساويةً في الأثر إلى الحدّ الذي لا يشعر معه القارئ بأنّ ثمّة نهايةً: «نظرت... فرأيت عجباً... ونقرت... فطنّ طنينَ الخزف المشويّ». هل الطنين هو المفاجأة الختاميّة أم هل هو استرسالٌ في الفعل وفي ردّ الفعل؟
إنّ هذه الأشكال الثلاثة من حضور المفاجأة تطبع الأقصوصة الومضة بطابع خاصّ في بنيتها. ويتأكّد هذا الطابع الخاصّ من خلال البناء الدائريّ وثنائيّة القفلة. وللبناء الدائريّ مثالٌ هو "سكّين" تبدأ بالتوجّع وبه تنتهي. أمّا القفلات فتتّخذ غالباً طابعاً ثنائيّاً. من ذلك مثلا "الشهيد". فقد انتهت هذه الأقصوصة الومضة بابتلاع اللسان. ولهذا الابتلاع الدالّ على عدم الرضا وجهان: طبيعة دولة الاستقلال ومصير الشهيد الحقّ فيها . والقول بوجود ثنائيّة للقفلة يعني تبديداً للحيرة، من ناحية وتعدّداً للمعنى، من أخرى.
ولنقاط الاسترسال يلجأ إليها الراوي قيمةٌ قارّةٌ، هي جعل النفس تذهب مذاهب شتّى في التصوّر حتّى إذا جاء اقتراح الراوي كان تخييباً لأفق الانتظار أو إقراراً له. ففي "الصندوق" مثلا تتحوّل ألوان قوس قزح إلى لون واحدٍ رماديٍّ كئيبٍ. وبين ذكر الواحد وتحديد طبيعته نقاط استرسال يستخدمها الراوي من أجل أن يفسح المجال للمرويّ له كي يتصوّر هذا اللون وسبب تحوّله من متعدّد إلى واحد . وقس على ذلك المواطن المتعدّدة التي تشهد فيها الأقصوصة الومضة مثل نقاط الاسترسال هذه. ففي "طين" تنتهي الأقصوصة الومضة بثلاث نقاط استرسال لا إيحاءً فقط بتواصلها ونفيها أن يكون ثمّة قفلة بل التفافاً على انتفاء الخاتمة المفاجئة. فطنين الصدر كما يفعل الخزف المشويّ ليس أمراً هيّناً بل هو مفاجئ إلى حدّ الإصابة بالبكم. وهذا مأتى القول إنّ عدم ظهور المفاجأة هو مجرّد إيهام.
ولا تكون نقاط الاسترسال هذه نقاطاً فقط بل قد ترد نقاط استفهام متتابعة كما هو الحال في "إنكار" . فبنقاط الاستفهام ينكر الراوي إنكار لوسي، بل يدعو المرويّ له إلى اتّخاذ الموقف نفسِه. فللعلامات الطباعيّة هذه، بتعدّد أشكالها، دورٌ في إضفاء الدلالة على النصّ ما دام الاقتصاد في العبارة هو سمته الرئيسة المخصوصة. لذلك تعمل الأقصوصة الومضة على أن تشرك المرويّ له، في الغالب، في استكمال النصّ. ومن هذا الاستكمال ما تحفز به هذه الأقصوصة الومضة همّة المرويّ له إلى تبيّن خصائصها الإنشائيّة. فما عساها تكون؟

2. خصائص الأقصوصة الومضة
لعلّ أهمّ ما يميّز الأقصوصة الومضة شدّة التكثيف. ويبدو أنّ هذه السمة ضروريّةٌ من أجل اكتساب هذا النمط من الكتابة توهّجه المطلوب. فإذا كان للأقصوصة أن ترتاح إلى شيء من التبسّط فإنّ مفهوم الوميض الذي به توصف الأقصوصة والدالّ على اللمعان والإشارة الخفيّة يفرض وجوباً قول القليل من أجل الحصول على المعنى الوفير. وهذا ما نهضت به، على سبيل المثال، أقصوصة "سكّين" الومضة. فورودها في اثني عشر سطراً أو تسع وخمسين كلمة لم يمنعها من أن تشفّ عن معانٍ كثيرة قد لا يفيها القارئ حقّها منها .
وإذا كان التحوّل في هذه الأقصوصة الومضة قائماً في مستوى تقويم السكّين خامًا حقيراً في بلدٍ مّا، أوّلا، فتحفةً تُباع بأبهض الأثمان في بلد النفط، لاحقاً اتّضح أنّ السبب في ذلك هو أداؤها في الضحيّة. وهو ما يعني أنّ الأقصوصة الومضة لم تبئّر السكّين وحدها بل بأّرت السكّين والضحيّة كلتيهما. وهو ما يقوم دليلا على سعة في المعنى رغم محدوديّة الحيّز الخِطابيّ.
وكلّما تقلّص هذا الحيّز ازداد التكثيف توهّجاً شأن "الدينار" . فلا ندري فيها أوردت على ضمير المتكلّم أم على ضمير الغائب. ومجرّد الحيرة في تحديد طبيعة الضمير يفرض تعدّد القراءة. ومن شأن هذا التعدّد البرهنة على أن لا قول فصلا ولا مرجِّحاً لهذه القراءة دون تلك . وهو ما نلمسه في عديد الأقاصيص الومضات.
لهذا التكثيف نتيجةٌ واحدةٌ هي فرض السؤال. ولعلّ هذا أن يكون سمةً تتميّز بها الأقصوصة الومضة ولا تشاركها فيها الأقصوصة إلاّ بالقدر القليل. ويبدو أنّ تقلّص الحيّز الخِطابيّ هو الذي يسمح بهذا التسآل. فكلّما ازداد النصّ إيجازاً ارتفعت درجة توهّجه وفرض مزيداً من الأسئلة. ولعلّ قراءة الأقاصيص الومضات أن تتحوّل إلى سيل من الأسئلة لا ينتهي.
قد يكون ذلك هدفَ هذه الأقاصيص الومضات المطموحَ إليه. فهي، من حيث تعمّدت أو لم تتعمّد، خلقت منهج قراءة جديداً هو القراءة الإيجابيّة. وتعني أساساً إسهامَ القارئ في إكمال النصّ. فليس دور القارئ كشفَ الدلالة التي ضمِنها الأقصوصيّ وضمّنها نصّه، بل دورُه قول أكثر ممّا يقوله النصّ ذاتُه. والواقع أنّ هذا القول غير مقطوع الصلة بالنصّ الأصل وإنّما هو امتدادٌ له وتشعيبٌ لدلالاته .
وإذ تعطي الأقاصيص الومضات الكثيرة انطباعاً بأنّها تفرض أسئلة أكثر ممّا تقدّم أجوبة تفتح شهيّة القارئ إلى الاستزادة منها. فهي توسّع آفاق انتظاره لتخيّبها أخيراً. ففي أقصوصة "البنغاليّ" الومضة قفلتان. تجيب الأولى عن أفق الانتظار الأوّل وهو داعي الحزن الذي عليه الراوي. وتجيب الثانية عن أفق الانتظار الثاني وهو داعي البكاء . إلاّ أنّ الأقصوصة الومضة، وهي تخيّب أفق الانتظار، لا تعمِد إلى تغيير في العبارة ولا إلى نقض في المشهد، بل قد تقرّ المشهدَ ذاتَه. وعلى القارئ الانتباه لمدى التخييب. فالتعجّب «أحّ» في "سكّين" قد ورد في مفتتح الأقصوصة الومضة للتعبير عن كفاءة السكّين وهي البتر. وورد في النهاية للدلالة على القيمة إذ بيعت بمليون دولار.
وفي هذه الحالة أيضاً لا تكشف الأقصوصة الومضة عن سرّها بل يظلّ هذا السرّ رهين كفاءة القارئ. وهو ما يجعل لها ميزةً أخرى هي الإثارة. فأن يجتمع أعضاء مجلس النوّاب ليستظهروا ما قاله دبشليم لبيدبا، في "اختبار"، مثار حيرة. فما فحوى ما استظهره أعضاء المجلس؟ ولِمَ اختير من يستظهر من نوّاب الشعب؟ فالإشارة، وهي أحد أصناف التناصّ، تقتضي كفاءة من المتلقّي كبيرةً ليعرف دواعيَ كلّ ما أُشير إليه ولم يُصرَّح به .
وإذا جادت الأقصوصة الومضة حيناً بالإشارة فهي أحياناً تظلّ على إلغازها لا تفارقه. وهو ما ينقل التكثيف إلى الغموض. ويتمّ للأقصوصة الومضة ذلك عندما تقوم المفارقة فيها على احتمالات شتّى. ففي "المائدة"، على سبيل المثال، تتركّز المفارقة على كثرة الإعداد والاستعداد ليبوء النشاط بالخيبة وعدم العودة. إلاّ أنّ عدم العودة هذا غير معروف المصدر. أهو النسيان أم الكارثة أم الخيانة أم التوبة أم...؟
إنّ الأسئلة، إذ تكثر، تسم الأقصوصة الومضة بالتحيير بسبب جعلها القارئَ غيرَ قادر على الحسم ، بل عاجزاً تماماً عن إيراد التأويل المقنع. فأقصوصة "بروموثيوس" الومضة تبدأ بإقرار الراوي غرابة أمر البشر. ولكنّه، طَوال الأقصوصة، لا يتكلّم على البشر بل على الإله بروموثيوس وما فعلت به الآلهة عندما أوكلت إلى كركيّ أكْلَ كبده المتجدّد على الدوام. ولمّا قتل الراوي الكركيّ دفاعاً عن الإله بدأ عذاب هذا الإله. لِمَ حكم الراوي على أمر البشر بالغرابة؟ ألأنّه يتصوّر أنّ عذاب بروموثيوس بدأ في الزمن الغابر عندما سرق النار من الآلهة أم لأنّه تسبّب من حيث لا يريد في عذاب الإله أم لأنّه تدخّل في شأن لا يعنيه؟ تمتنع الأقصوصة الومضة تماماً عن الإيفاء بأيّ وجه من وجوه الدلالة.
وما دامت كذلك فهي تولي التدلال (Signifiance) أهمّيّة كبرى. فالعلامة اللغويّة المسمّاة "علامةً اطّراداً" متى دخلت الخطابَ والتقت بما عداها من العلامات حقّقت ما يُدعى التدلال. وهذا ما نلمسه عندما تجتمع المفردات بعضُها ببعض فتتخلّق علاقاتٌ بينها لم تكن. من ذلك أنّ في "مالك الحزين" يُسأل الطائر عن سبب امتناعه عن وضع ساقه الثانية على الأرض فيقول: «أخاف أن يزلزل زلزالها...» (ص39). فما عسى أن يعني هذا الزلزال؟ أساق مالك الحزين ثقيلةٌ إلى حدّ زلزلة الأرض؟ أَوَهو إشفاقٌ منه على الأرض أم هو سخرية منه بها؟
إنّ الأسئلة التي تولّدها الأقصوصة الومضة دليلٌ على ما يثوي فيها من تعدّد للدلالات وعلى قابليّتها لأن تُقرَأ قراءاتٍ متباينةً ولكنّها جميعَها تمتح من أصل واحد هو النصّ ذاته. إلاّ أنّ النصّ، إذا لم يفش سرّه ربّما كان النصّ الحافّ (Péritexte) عنواناً أو إهداءً مخفّفاً من غموضه. فكيف تتعامل الأقصوصة الومضة مع العنوان؟

2. 1. العنوان
يبدو أنّ العناية بالعنوان التي تحتاج إليها النصوص أكثرُ إلحاحاً في الأقصوصة الومضة. فبالنظر إلى تكثّف خطاب النصّ تكون الحاجة إلى العنوان شديدةً إن لتفسير مغلَقٍ وإن لفتح آفاق انتظار أو لتعتيم أو لتعقيد. ولهذه الغايات ما يناسبها من أقاصيص ومضات. فمن يقرأ "ماء الحياة" (ص23) دون أن يفهم أنّ البطل سكران لا يتسنّى له فهم الأقصوصة الومضة. فبالعنوان وحده اتّضح كلّ النسيان المشار إليه في النصّ . أمّا "أسنان الشيطان" (ص53) فبما يرمز إليه مكوّناها وهما السنّ عنوان الافتراس والشيطان عنوان الشرّ، يُعِدّ القارئ نفسَه لتلقّي النصّ. فإذا به يعزّز مفهوم الافتراس الشرّير عندما يفهم من أسنان الشيطان هذه الجرّافةَ التي تقلع زياتين الفلسطينيّين لتقيم مكانها الجدار العازل أو تشقّ طريقاً أو تبني مستوطنةً (ص ص -53). لكنّ فتح الأفق هذا الذي يُلبَّى قد لا تقدّم له الأقصوصة الومضة رديفاً. من ذلك أنّ "الصندوق" الواردَ عنواناً معرفةً ظلّ على إغلاقه إلى آخر شوط وإن أشير إلى أوراقه تُفرَز بعد حلّ قفله. فالتعريف الوارد عليه مناقضٌ لما انتهت إليه الأوراق فيه إذ باتت ذات لون واحدٍ كالحٍ. وإصرار الراوي على تنكيره تعبيرٌ منه عن إنكاره إيّاه (ص 10).
وشبيهٌ بانغلاق العنوان تعقيدُه الإشكالَ. فبدلا من أن يُسعِف بالتخفيف من غموض النصّ يزيده إلغازاً. وهذا شأن أقصوصة "ديمقراطية" الومضة. فالديمقراطيّة المشار إليها متحقّقةٌ فعلاً. فثمّة مشاورةٌ من الملك المؤنِّبِ نفسَه لوزرائه وثمّة عدلٌ في ما حكم به الوزراءُ على الملك قاتل وزيره شتربة. لكنّ هذه الديمقراطيّة سرعان ما ينطفئ أثرها لأنّ الملك يقرّر قتل الوزراء والرجوعَ عن مشورتهم. يبدو أنّ عنونة الأقصوصة الومضة بديمقراطيّة هدفُها التنبيه على انتفائها. إلاّ أنّ هذا ليس سوى ظاهرٍ. أمّا باطنه فإشارةٌ إلى أنّ الإجرام الذي أشعر الملك بالذنب لم يكن من سبيل إلى تجاوزه إلاّ بإغراقه في مزيد القتل. وهذا يعني أنّ العنوان، إذ يقدّم قراءةً للنصّ، لا يفلح وجوباً فيها. وإنّما أقصى سعيه اجتهادٌ لا يمنع سواه من أن يكون.
ولعلّ الانتباه لكون العنوان، بوصفه نصّاً حافّاً، يرد عموماً جملةً مختزلةً مؤوّلةً تأويلَ حذف أن يفرض على القارئ تقدير الحذف المفترض. وهو ما ينيط بهذا القارئ مسؤوليّة متجدّدةً ويجعل قراءته فعلاً إيجابيّة. ذلك أنّ عناوين الأقاصيص الومضات تختلف صيغةً. فمنها ما يأتي مفردةً معرفةً ومنها ما يأتي مفردةً نكرةً ومنها أخيراً ما يأتي مركّباً إضافيّاً أو نعتيّاً. وفي كلّ الأحوال يُطلَب من المرويّ له ملء الثغرة إن قبلا وإن بعداً كي يكتمل نصّ العنوان. والحقّ أنّ اكتماله يتمّ اعتماداً على النصّ الذي يتلوه مباشرةً. ولئن كان هذا العنوان أوّلَ ما يطالع القارئ فقد يكون آخر ما يعود إليه متى وجد في النصّ الذي قرأ ما يعسُر عليه، للوهلة الأولى، فهمُه. ويصبح آنذاك مردّداً النظر بين النصّ ونصّه الحافّ علّه يظفر منه بفكّ مّا للغز.
وهذا يعني أنّ العنوان يُسهِم بدوره في تكثّف الدلالة. وينتقل، آنذاك، من مستوى النصّ الحافّ المراد منه أخذٌ بيد القارئ إلى مستوى النصّ الذي لا ينفكّ يُغمِض. ولا تأتي الأقصوصة الومضة هذا الصنيع عفواً وإنّما هي تسعى إليه سعياً عبر وسائل خِطابيّةٍ بعينها. فما سمات هذا الخطاب الأقصوصيّ الوامض؟

2.2. سمات الخطاب
تلجأ الأقصوصة الومضة، وهي الشديدة التركيز، إلى مثل ما تلجأ إليه القصيدة من اقتصاد في اللفظ وتكثيفٍ للدلالة فضلا عن إيقاع به تلفت الانتباه إليها. ولعلّ الإشارة إلى الأسئلة التي تفرضها الأقصوصة الومضة أن تكون دليلاً على غناها مداليلَ وعلى اعتياضها عن الدلالة بالتدلال. لكنّ ما تذهب إليه من احتفاء بالدالّ هو الذي يضفي عليها شعريّة (Poéticité) خاصّةً.
وتتجسّد هذه الشعريّة في ما تتجسّد فيه ترديداً دالّيّاً وتوازياً. وفي ما فعله الراوي في "مجنونان" من استعمال للعائد البعديّ (Anaphore) يتكرّر سبع مرّات: «باب يفتح على...» وآخر يرجّع صداه: «هو باب...» جمعٌ بين الترديد الدالّيّ والتوازي في آنٍ معاً. وانسياب الأقصوصة الومضة على هذا النسق يجعل تلقّيها يتمّ على مستوييْن، مستوى الدالّ يتردّد ومستوى المدلول يتطوّر حتّى إذا جاء تغيير نسق الجملة انتبه المتلقّي ليركّز اهتمامه مجدّداً على نسق في التركيب جديد.
ولهذا البناء المتوازي دالّيّاً رديفٌ، في مستوى المدلول، نعثر عليه في أكثر من أقصوصة ومضة. من ذلك أنّ "نبوءة" تقوم على توازٍ بين عهديْن، عهدِ الصبا والشباب حيث إنكار النبوءة والسخرية منها ومن مروّجيها وعهدِ الكهولة حيث الإقرار بها أمراً واقعاً وإن لم يكن بالضرورة اقتناعاً.
ولهذا البناء المبتغي تحقيقَ التأثير في نفس القارئ ما يقتضي وجوباً اقتصاداً في العبارة. ومن مظاهر هذا الاقتصاد الامتناع عمّّا به يترهّل الخطاب النثريّ ذو الوظيفة الإفهاميّة. فلا روابط (Connecteurs) تسهم في وصل التراكيب بعضِها ببعضٍ وإنّما هو استدعاءٌ لطاقة القارئ الاستدلاليّة. ففي "طموح"، مثلا، ترد الجملُ تلي إحداها الأخرى في تعاقب منطقيّ من دون أيّ واصلات (Embrayeurs) كأدوات العطف أو الاستئناف أو الاستدراك أو سواها. وحتّى العائد الضمير قد يرد عائداً قبليّاً (Cataphore). فلا نعرف المعود عليه إلاّ لاحقاً: «شاهدتُه... قال لي صيّاد هو طفلٌ...» (ص 37).
أمّا صيغة الخطاب فقد تتّخذ صفتي الخطاب غير المباشر الكلاسيكيّ والخطاب المباشر. وقليلا ما ترد خطاباً فوريّاً أو مونولوجاً داخليّاً. وهو شأن "سكّين". فقد بدأت وانتهت بتوجّع مارسه في الحالتيْن المتلفِّظ (Enonciateur) نفسُه وقد ماهى المتكلِّمَ (Locuteur) . لكنّ ما ورد بين التعجّبيْن من استفهاميْن طويليْن ملتبسٌ أمرُه. أهو من صنيع المتكلّم أم من صنيع الشخصيّة.
يبدو أنّ ما به تعزّز الأقصوصة الومضة تكثّفَها لجوءَها إلى الخطاب غير المباشر الحرّ حيث لا قطيعة تلفّظيّةً (Rupture énonciative) بل استمراريّة خِطابيّةً (Continuité discursive) . وإذا انتبهنا لكون التعجّب في "سكّين" يقوم على ترديد دالّيّ وعلى تباين مدلوليّ إذ التعجّب الأوّل مردّه إلى كفاءة السكّين والتعجّب التالي إلى قيمتها وانتبهنا لكون التلفّظ جاء مستقلاّ ومشتركاً ولكون الأقصوصة الومضة هذه قد انطوت على معانٍ كثيرة تبيّن لنا مدى الكثافة التي تنطوي عليها الأقصوصة الومضة ومدى الكفاءة التي تتمتّع بها عندما تقول القليل لتفيد به الكثير.
كلّ هذا الذي تلجأ إليه الأقصوصة الومضة فتحقّق به شعريّتها المميّزة يستفيد منه الراوي متكلّماً عرض وجهة نظر المتلفّظ من خلفه.

2 .3. وجهـة النظر
ليس خطاب الأقصوصة الومضة الفنّيّ ليكون خلواً من موقف. ولعلّ اتّخاذ الراوي/المتكلّم صفتي كلّيّة الحضور وكلّيّة المعرفة أن يُسهم بقسط في بلورة موقفه. ففي "المعتقل" نشهد مع الراوي خارج المعتقل وداخله ثمّ يستقرّ النظر على الساحة ومن فيها. ويعطي الراوي الانطباع بأنّ الشخصيّة المبأّرة هي التي سيُنفَّذ فيها حكم الإعدام. وكذلك يذهب في ظنّ المرويّ له. لكنّ الراوي يفاجئه بأنّ الشخصيّة المعنيّة هي الجلاّد نفسُه. ولا يكتفي بهذه المفاجأة فحسب بل يعمِد إلى سخرية مقاميّة يقيمها على تباينٍ بين انهماك الجلاّد في الذبح وحفاظ منه على أصول المهنة. فهو لا يذبح إلاّ بعد البسملة أو التكبير.
وتعرض سخرية المقام هذه في أقصوصة "عزرائيل" الومضة. فقد بناها الراوي على قلب للمعنى (Antiphrase) عندما أصرّ على أنّ كرسيّ عزرائيل عتيقٌ وما ينظر إليه شاشةٌ إلكترونيّةٌ عملاقة. وقامت السخرية أيضاً على التضخيم (Amplification) عندما تمكّن الراوي في طرفة عينٍ من إحصاء مليارات الفوانيس اللامعة داخل الشاشة.
إنّ كلّيّة الحضور لدى هذا الراوي، إذ تُضاف إلى قلب المعنى والتضخيم، تضفي جوّاً من الفانتاستيكيّ غايته توظيف المتخيّل الشعبيّ في تصوّر قبض الروح. فلكلّ عصرٍ طريقتُه في أداء عزرائيل مهمّته. وإضفاء هذا الجوّ الفانتاستيكيّ الهزليّ ينسجم مع ممارسة أخرى للراوي في خطابه. فهو، من أجل أن يلفت الانتباه إلى ما يبغي تبليغه، يلجأ إلى اللعب بالألفاظ والتورية شأنه في "ذهب" (ص43). فقد اغتنم فرصة اتّفاق المعدن والفعل من الذهاب في الدالّ نفسِه ليعبّر عن تعاطفه متلفِّظاً مع الشخصيّة. فقد اختارت من تعتبره رفيعاً كالذهب لكنّ التنغيص عليها جعله يذهب. فاستنكفت من تجديد العهد بالرجال لأنْ لا أحد مثله فيهم من ذهب.
إنّ القول بتعاطف الراوي مع الشخصيّة يعني أنّه لا يبغي القيامَ بذلك لنفسه، بل يعمل على أن يجلب القارئ إلى صفّه. وهو ما يعني أنّ الأقصوصة الومضة، إلى جانب خطابها الفنّيّ القائم على الإيقاع والتوازي والسخرية والتورية، قد تتّخذ أحياناً طابع خطاب الضمير حيث الحجاج والإقناع. وهو ما نلمسه في أقصوصة "أبديّة" الومضة . فاسم الإشارة إلى القريب فيها واسم الزمان واسم المكان والمضارع الدالّ على الإطلاق تشفّ جميعُها عن انتقال من الخطاب القصصيّ إلى خطاب الضمير أو خطاب الرأي : «هذا الجسم الذي يتحلّل الآن داخل القبر تتصارع بين جنباته ملايين الخلايا...». إلاّ أنّ عودة الأقصوصة الومضة إلى المفاجأة تغلّب جانب القَصَص على الضمير. أيعني ذلك تخلّياً عن الفكرة المراد ترسيخها في ذهن المرويّ له؟ كلاّ! فقد جاءت المفاجأة على الصيغة الإطلاقيّة نفسِها وجاء الإهداء إلى داروين في البدء ليؤكّدا معاً المقصد الحجاجيّ الإقناعيّ.
كلّ هذا يعني أنّ وسائل المتلفّظ إلى إبداء وجهة نظره لا تقف عند شكل واحد من أشكال العرض رغم التقلّص الخِطابيّ للأقصوصة الومضة. وهو ما يعني أنّ سمة الوميض في الأقصوصة لا تتضارب واتّخاذ موقف يُحمَل المرويّ له على الاقتناع به.
إنّ الحديث عن وجهة النظر يبديها المتلفّظ يستدعي في ما يستدعيه الموقف من النصوص الوجيزة التي يمكن أن يكون للأقصوصة الومضة صلةٌ بها. فما عساها تكون هذه النصوص؟

3. الأقصوصة الومضة ومتناصّاتها
ليست الأقصوصة الومضة بمقطوعة الجذور. فانتماؤها إلى الأقصوصة جنساً سرديّاً يجعلها بسبب من الأجناس الوجيزة وضاربةً بسهم في التراث السرديّ عموماً. ولعلّ سوْق كثير من الأقاصيص الومضات على لسان المتكلّم المفرد أن يُحيِي فكرة الأنا الغنائيّ وإن لم يكن التطابق كلّيّاً بين الراوي بضمير المتكلّم والشخصيّة المتكلَّم عليها، من ناحية والأقصوصيّ، من أخرى. إلاّ أنّ إحياء هذا الأنا الغنائيّ لا يتأتّى من الصورة التي يبغي الأقصوصيُّ أن يبدو عليها بقدر ما يتأتّى من الانفعالات التي يثيرها في نفس القارئ وقد تأثّر هو بها بدءاً. ويأتي ارتباط الأقصوصة الومضة بالأدب الغنائيّ كذلك من كثافتها التي تُحِلّها محلّ الشعر.
وللأدب الشعبيّ تجلّياتٌ في الأقصوصة الومضة لا تخفى. فاستدعاء شهرزاد في شخصيّة زبيدة امرأة الرشيد تسكت عن الكلام المباح والتذكير بمسرور السيّاف وبجزر واق الواق يجعلان الأقصوصة الومضة المعاصرة ترفل في حلّة عتيقة محتوى وشكلا. ولعلّ تكلّف الراوي مناداة المرويّ لهم بـ«يا سادتي»، وهو يقصّ عليهم حكاية "دودة الحشفة" أن يضفي هذا الطابع العتيق على النصّ الجديد. وإذا هذا النصّ يستجيب إلى المحتوى والشكل القديميْن وهو يهفو إلى أن يكون حداثيّاً.
وقد تلجأ الأقصوصة الومضة إلى هذا التناصّ العلنيّ عندما تستدعي عبد الله بن المقفّع فتهديه أقصوصتي "اختبار" و"رؤيا" الومضتيْن (ص 35؛38) أو قد تكنّي عنه عندما تماهي بين داروين الحكيم وبيدبا (ص 35). وعندها تضحي الحكاية المثليّة هي الجنسَ الأدبيَّ الذي تتماهى معه وتصبح الحكمة بما هي جنسٌ وجيزٌ وبسيطٌ رديفاً مهمّاً للأقصوصة الومضة.
وعلى غرار هذه الأجناس الأدبيّة الوجيزة تتناصّ الأقصوصة الومضة مع الخبر باعتباره وحدةً سرديّةً قصيرةً بسيطةً . ويتّضح ذلك في مستوييْن، الإيجاز والبساطة أوّلا، والإسناد ثانياً. ففي "نبوءة"، الأقصوصة الومضة و"ميقات"، الأقصوصة الومضة الدنيا تذكيرٌ بعادة الأخباريّين في نقل الأخبار نسجاً منهم على عادة أهل الحديث: «عن أمّي، عن جدّ جدّها، عن سيّدي ومولاي عليّ ابن حفص أنّه قال...» (ص 16)؛ «روى أحمد والشيخان وابن ماجة عن أبي هريرة، قال...» (ص27). وإذا كان نمط الإسناد الأوّل نسجاً على منوال قديم فقد كان النمط الثاني نسخاً للمنوال القديم.
وشبيهٌ بالخبر الأسطورة. ونماذجها في الأقاصيص الومضات كثيرة. فهي توجد في الأقصوصتين الومضتيْن "نبوءة"(ص 14) و"بروموثيوس"(ص 16) وفي الأقصوصة الومضة الدنيا "ترقّب"(ص 29). وحضور الأسطورة بهذه الكثافة مردّه إلى مرونتها. فهي وجيزةٌ بسيطةٌ. وهي تروي قِصَص الآلهة والأبطال. وفي ذلك تحويلٌ للنصّ الأقصوصيّ من الانبجاسيّ (Implosif) إلى الانفجاريّ (Explosif) . وقد تُطوَّع الأسطورة فتؤخَذ وظائفها الرئيسة لابتداع أقصوصة ومضة بديلة شأن "عزرائيل" (ص 32) والأقصوصة الومضة الدنيا "المسيح الدجّال" (ص 30). فلا يُراد من المسيح الدجّال في هذه الأقصوصة الومضة الدنيا إعادة إنتاج حكايته بقدر ما يُراد توظيفُها في خدمة دلالة معاصرة. فبناء الأقصوصة الومضة الدنيا على تقابل بين حمار ودبّابة وبين لبس مّا وبدلة عسكريّة مزركشة في مكانٍ واحد هو أورشليم يحوّل الأقصوصة من الأسطوريّ إلى الواقعيّ. وتضحي آنذاك الأسطورة مجرّد رمز.
وقد تستدعي الأقصوصة الومضة من التراث الأدبيّ الوصيّة فتنسج على غرارها. وهو ما نلمسه فعلاً في نصّ بعنوان "الوصيّة الثالثة" . فقد قامت على تمهيد وعلى عرضٍ اختيرت فيه الأعمال المضمّنة في القول أمراً ووقع الحرص في هذه الأعمال القوليّة على إيراد المهمّ وترك الزوائد. وما دامت الغاية غيرَ الوصيّة بل العملَ المؤثِّرَ بالقول كانت المفاجأة هي الهدفَ. وهو ترك الابن معلّقاً منتظراً أن تُفتَح له أبواب السماء والأرض ولكن دون جدوى.
ومثلما تتناصّ الأقصوصة الومضة مع الأجناس الأدبيّة النثريّة الوجيزة تتناصّ مع المرثاة التي غالباً ما كانت ترد شعراً أو مع التأبين الذي يرد هو أيضاً نثراً. وقد سعى الراوي في "الجنديّ المجهول" إلى الجمع بين الشعريّ والنثريّ فعدّد الخصال واعتمد الترديد الدالّيّ سبيلا إلى ذلك: «جسمُه المفتول الذي... جسمه المفتول المتوهّج... ذوى» (ص34).
وقد لا تكفي الراويَ متناصّاتُه يستقيها من الأجناس الأدبيّة القديمة بل يذهب إلى البحث عن تناصّ ذاتيّ (Autotextualité) يذكّر فيه المرويّ له بنصوص له أخرى سبقت. وفي "ميقات"، الأقصوصة الومضة الدنيا حضّ لإسرافيل على النفخ في الصور لتقوم الساعة. ولكنّها الساعة الدنيويّة لا الأخرويّة تماماً كما هي الحال في القيامة...الآن. وقد يضيف الراوي إلى هذه المتناصّات الخيال العلميّ باعتباره من الأجناس الأدبيّة المستحدثة في العالَم ولدى العرب. وهو ما نلمس أثره في "الديك الذهبيّ" . فإقامته ساهراً إلى الفجر لا ينطبق في شيء على الديك الحقيقيّ الذي ينام بمجرّد أن تغيب الشمس. وهو ما يعني أنّ المقصود منه ليس الديك الطبيعيّ. ويزداد بعده عن الطبيعيّ من خلال الصفة التي أطلقها عليه الراوي. فأن يكون ذهبيَّ اللون أمرٌ واردٌ. لكنّ الأكثر وروداً هو قيمته التي هي من قيمة الذهب. فعينه الساهرة على الدوام لا تتأتّى إلاّ لما هو شبيهٌ به.
ومثلما تربط الأقصوصة الومضة صلات متينةً بالأجناس الوجيزة فتحاكيها لا تمتنع عن ارتياد الأجناس المستحدثة تنسج على منوالها. وأبرز تلك الأجناس الفانتاستيكيّ والعجيب والغريب. ولعلّ لجوء الأقصوصة الومضة إلى هذه الأجناس أن يسمها، كالأقصوصة تماماً، بانقسامها إلى انبجاسيّة وانفجاريّة. واستدعاءُ الأساطير للتعامل معها يحدّ من الطبيعيّ ليخلق إيهاماً بالفانتاستيكيّ. وهذا هو الشأن مع "عزرائيل". ففي ضغطه على زرّ كلّما حان أوان روحٍ تُقبَض خلطٌ بين الطبيعيّ والخارق أو لعلّه تجسيمٌ لفعل غير مرئيّ. وفي هذه الحال يكون الفانتاستيكيّ هو السائدَ بل العجيب ما دامت لحظة التردّد قد تُجووِزت. والأمر نفسُه يتّضح في "بروموثيوس". فذهاب الراوي إليه وإطلاقُه النارَ على الكركيّ آكِلِ كبد الإله ينقلان الفانتاستيكيّ إلى العجيب أي إلى القبول بالخارق بلا لِمَ ولا كيف. أمّا في "وجه في المرآة" فيغلب الغريب ما عداه. فقد أصبح للصورة في المرآة حياتها الخاصّة بها. ورغم فرار المعاكِس جارتَه ظلّ لسانه يلعب وعينه تغمز.
وهكذا يتّضح أنّ الأقاصيص الومضات في المرّ... والصبر لا يحكمها تصوّرٌ واحدٌ لطبيعتها. ففيها يشترك الانبجاسيّ والانفجاريّ معاً. ولكنّها، في كلّ الأحوال، تتغذّى من معين سرديّ وجيز لا ينضب. ولعلّ لجوءها إلى الرمز، وهو وسيلتها في الحفاظ على شعريّتها وكثافتها أن يسهم في تحقيقها التواصل مع المرويّ له. وشرط ذلك كفاءة القارئ التأويليّة. إلاّ أنّ الرغبة في جعل الغموض غيرَ مبهم تحفز همّة الراوي إلى توفير أسباب للفهم يسيرة شأنه مع "الرحى"(ص20) ومع "زبيدة" (ص 21) على سبيل المثال.
وهكذا تتضافر هذه الأجناس الأدبيّة الوجيزة القديمة مع الأجناس المستحدثة إلى جانب التناصّ الذاتيّ من أجل أن تحقّق للأقصوصة الومضة تأصيلا في السرد الوجيز وإعادة إنتاج لخطاب أدبيّ أقصوصيّ لا يني يتطوّر ويتغيّر شكلا.


على سبيل الخاتمة
لقد قدّمت مجموعة المرّ... والصبر أنموذجاً للكتابة الأقصوصيّة الوامضة لم يقطع صلاته بالأقصوصة ولا بالأجناس الأدبيّة الوجيزة المعروفة في التراث.
وقد تبيّن أنّ بناء الأقصوصة الومضة يستهدف رأساً الخاتمة يركّز عليها اهتمامه. وكانت المفاجأة تحسّ بها الشخصيّة وينقلها الراوي ليعدي بها المرويّ له هي العنصرَ القارَّ في مثل هذا النمط من الخطاب. ولئن تعدّدت أشكال المفاجأة فقد ظلّ حضورها قارّاً ضرورةً. وبدا أنّ البناء يكون دائريّاً فتنغلق الأقصوصة الومضة على نفسها. وقد يكون مفتوحاً فتذهب النفس في فهمه مذاهب شتّى. ولهذا البناء المركِّز على النهاية سعيٌ إلى تحقيق ذاته من خلال إيجاز في العبارة وتكثيف للدلالة بل من خلال عدد محدود من الكلم لا تتجاوزه. وما دام المقصد تركيزاً في العبارة فلا بدّ أن تُتجاوَز تفاصيلُ ويُتَخلّى عن زيادات. وهو ما يفرض على المرويّ له أسئلة عديدةً لا يجاب عن أحدها حتّى يتولّد صنوه.
واتّصاف الأقصوصة الومضة بفرض السؤال يحمل المرويّ له على البحث عن وسائل بها يجانبه إن لم يستطع اتّقاءَه. وهو ما يدعوه إلى البحث في العنوان، بوصفه نصّاً حافّاً، عمّا يرشده إلى الدلالة المرجوّة. وقليلا ما يؤوب منه مرتاحاً راضياً، إذ لا يخلو العنوان هو نفسُه من تعتيم. وإذا تصوّر هذا المرويّ له أنّ في نقاط الاسترسال والتعجّب والاستفهام مساعدةً على الفهم باء بخسران مبين. لذلك يكتفي بالمتعة يجدها في الدالّ ترديداً أو توازياً أو سخريةً أو خطابَ ضمير أو يجدها في استدعاء الأجناس الأدبيّة الوجيزة التراثيّة والجديدة تتعامل معها الأقصوصة الومضة تعاملها الخاصّ.
كلّ ذلك تحقّق به الأقصوصة الومضة تأثيراً في المرويّ له محافِظةً على توهّجها عاقدةً صلاتٍ بأجناس سرديّة في الأدب لا تنفصل عنها.

المصادر والمراجع

المصدر:
*درغوثي، إبراهيم، "المرّ... والصبر " وقصص قصيرة جدّاً أخرى. [قيد الطبع].

المراجع
*جاسم الحسين، أحمد، همهمات ذاكرة، 1996.
*جاسم الحسين، أحمد، خبي صة، دمشق، التكوين للتأليف والترجمة والنشر، 2008.
*حافظ، صبري، خصائص الأقصوصة لبنائيّة وجماليّاتها، فصول، القاهرة، المجلّد 2، العدد 4، يوليو، أغسطس، سبتمبر 1982 *درغوثي، إبراهيم ،كأسك يا مطر، تونس، دار سحر للنشر، 1977.
*درغوثي، إبراهيم ، النخل يموت واقفاً، صفاقس، صامد للنشر والتوزيع، 2000.
*درغوثي، إبراهيم ، تحت سماء دافئة، توزر، منشورات فرع اتّحاد الكتّاب التونسيّين، 2008.
*القاضي، محمّد، الخبر في الأدب العربيّ، دراسة في السرديّة العربيّة، تونس/بيروت، منشورات كلّيّة الآداب منّوبة ودار الغرب الإسلاميّ، 1998.
نصر، حسن، 52 ليلة، تونس، منشورات الجديد، 1979.

.
*Angenot, Marc, La Parole pamphlétaire, Typologie des discours modernes, Paris, Payot, 1982.
*Ducrot, Oswald et Todorov, Tzvetan, Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Paris, Seuil, 1972. *Ducrot, Oswald, Le Dire et le Dit, Paris, Les Editions de Minuit, 1984.
*Jolles, André, Formes Simples, Traduit de l’allemand par Antoine Marie Buguet, Paris, Editions du Seuil, 1972.
*Mignard, Annie, La Nouvelle française contemporaine, Paris, Ministère des affaires étrangères, (S.D.) *Montandon, Alain, Les Formes brèves, Paris, Hachette, 1992.
*Ozwald, Thierry, La Nouvelle, Paris, Hachette, 1996.
* Rivara, René, La Langue du récit, Introduction à la narratologie énonciative, Paris, L’Harmattan, 2000.
*Roukhomovsky, Bernard, Lire les formes brèves, Paris, Nathan Université, 2001

تعليقات