أين شعرية الشعر؟

شعريّة الشّعرِ في جمالِ أسلوبِه و جَمالُ أسلوبِه في جمعِه بين
الفضائلِ كلِّها : اللّفظ والمعنى، والأسلوب و الصّور والوزن
و الإيقاع ... لأنّ الشّعرَ نسَق وبنيةٌ

وقد تكلّم النّقّاد كثيراً في شعرِيّة بعض الأبيات واختَلَفوا
و هأنا مورِدٌ ههنا أنموذجاً من الشّعرِ الذي اختلَفوا فيه :

ولما قضينا من منى كل حاجة /// ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المهاري رحالنا /// ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا /// وسالت بأعناق المطي الاباطح

كثير من النّقّاد القُدماء استحْسَنوا لفظ الأبياتِ واستعاراتِها ومجازاتِها ، ولكنّهم استخفّوا المَعْنى
إلاّ عبدَ القاهِر في الدّلالائل ، الذي استحْسَنَ ألفاظَها ومعانيها
و ابنَ جنّي قبلَه ، في الخصائص ، الذي قال في حقِّها :

« فإن قلت: فإنا نجد من ألفاظهم ما قد نمقوه، وزخرفوه، ووشوه، ودبجوه،
ولسنا نجد مع ذلك تحته معنى شريفاً، بل لا نجد قصداً ولا مقارباً، ألا ترى إلى قوله:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
فقد ترى إلى علو هذا اللفظ ومائه، وصقاله وتلامح أنحائه، ومعناه مع هذا ما تحسه وتراه:
إنما هو: لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين، وتحدثنا على ظهور الإبل.
ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها، مشروفة المعاني خفيضتها.

قيل: هذا الموضع قد سبق إلى التعلق به من لم ينعم النظر فيه، ولا رأى ما أراه القوم منه،
وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وخفاء غرض الناطق. وذلك أن في قوله " كل حاجة "
ما يفيد منه أهل النسيب والرقة، وذوو الأهواء والمقة ما لا يفيده غيرهم، ولا يشاركهم فيه
من ليس منهم، ألا ترى أن من حوائج منى أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه، والمعتاد فيه
سواها، لأن منها التلاقي، ومنها التشاكي، ومنها التخلي، إلى غير ذلك مما هو تال له،
ومعقود الكون به. وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه، وعقد غرضه عليه،
بقوله في آخر البيت:
ومسح بالأركان من هو ماسح
أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها، وآرابنا التي أنضيناها، من هذا النحو
الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به، وجار في القربة من الله مجراه، أي لم يتعد هذا القدر
المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح.

وأما البيت الثاني فإن فيه:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وفي هذا ما أذكره، لتراه فتعجب ممن عجب منه
ووضع من معناه. وذلك أنه لو قال: أخذنا في أحاديثنا، ونحو ذلك لكان فيه معنى
يكبره أهل النسيب، وتعنو له ميعة الماضي الصليب. وذلك أنهم قد شاع عنهم
واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الأليفين والفكاهة بجمع شمل المتواصلين...

وفي قوله:
وسالت بأعناق المطي الأباطح من الفصاحة ما لا خفاء به. والأمر في هذا أسير، وأعرف وأشهر.
فكأن العرب إنما تحلى ألفاظها وتدبجها وتشيها، وتزخرفها، عناية بالمعاني التي وراءها،
وتوصلا بها إلى إدراك مطالبها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر لحكماً وإن من البيان لسحراً " .
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقد هذا في ألفاظ هؤلاء القوم، التي جعلت مصايدَ وأشراكاً للقلوب،
وسبباً وسلماً إلى تحصيل المطلوب، عرف بذلك أن الألفاظ خدم للمعاني، والمخدوم - لا شك - أشرف من الخادم.
والأخبار في التلطف بعذوبة الألفاظ إلى قضاء الحوائج أكثر من أن يؤتى عليها، أو يتجشم للحال نعت لها »

ما أجملَ هذا البيانَ الشّافي الذي ذكَرَه ابنُ جنّي في فضيلةِ مثلِ هذا الشّعر ، الذي حَلا لفظُه ومَعْناه على السّواء

تعليقات