قراءة في رواية "أطفال الليل" لمعمر بختاوي

من إنجاز: عبد الرحيم التدلاوي

رواية "أطفال الليل" للكاتب د .معمر بختاوي، صدرت عن دار التوحيدي في طبعتها الاولى سنة 2010. في حجم متوسط، وطبعة أنيقة من 102 صفحة، وتشتمل على 10 فصول متفاوتة الأحجام..
1 ـ عتبات النص:
1_عتبة الغلاف والصورة:
الغلاف هو عنوان الرسالة وليس قبراً بارداً، داخله ورقة، أو مجموعة أوراق بالحروف المرتبكة وحرائق
الشوق، الغلاف هو اللغويات الأولى… 


بهذه الفقرة، ينفتح لنا عالم " أطفال الليل"، ليساعد القارئ كي يخطو أولى الخطوات نحو عالم النص، ومن هنا كانت هذه الفقرة بمثابة بوابة العبور التي تمنح القارئ فتنة اكتشاف الكتاب وأغواره. فالغلاف يفتن متلقيه، بالمعني الذي ينساق وراءه... وذلك ما يغريني للقول: أن تصميم الغلاف قي "أطفال الليل"، يعبر عن تشكيل تجريدي، لمنظر واقعي، قد تكون له علاقة مباشرة بالمضمون الروائي، وقد لا تكون إلا أنه يمتلك قدرة ملموسة وواضحة في اجتذاب وافتنان القارئ.
جاء الغلاف بلون بني يحمل لون التراب ويتفاعل معه، واختيار اللون لم يكن اعتباطيا، إنه يخضع لمقصدية الكاتب ويمتثل لدلالة المتن الروائي.. إن اللون يرتبط بالتراب، بمعنى أن الغلاف يخبرنا بأننا إزاء أرض ستكون مسرح أحداث الرواية، وهي مكمن الصراع. واذا قمنا بحمل هذه الدلالة كسؤال، فان النص سيقدم لنا الجواب. فعلى مدار عدة مقاطع نجد أحداث النص تقع بضيعة فلاحية لانتاج الورود، كما أن الفتية حين يكبرون تمتد أطماعهم ـ وأقصد تلك الثلة من الأطفال الوصوليين ـ إلى الأرض و تميل إلى كسبها واستثمارها، من جهة، وتحويلها كواجهة لقضاء مآربهم ، من جهة أخرى.
تزين وسط الغلاف صورة بأرضية بيضاء بها ثلاثة أطفال متماسكي الأيدي، وهم يزاولون لعبة الدوران. يحمل كل واحد منهم لونا خاصا، الأزرق والأحمر والأصفر..( دلالة على حياة الإنسان، الأزرق لون الطفولة والبراءة، والأحمر لون المخاطر والمسؤولية، والأصفر لون الشيخوخة ..) فوق الصورة، وبلون أبيض اسم المؤلف جاء بخط رقيق. وتقدم الصفحة الرابعة تعريفا به وبمساره الدراسي والعملي، وتحته عنوان الرواية، وبخط أكثر بروزا، للفت انتباه القارئ المحتمل. وتحتها النوع الاجناسي للعمل. وتحتها "دار النشر" و جاءت بخط رقيق جدا، ثم علامتها البصرية.
عتبة العنوان:
يعد العنوان من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الداخلية؛ نظرا لكونه مدخلا أساسيا في قراءة الإبداع الأدبي والتخييلي بصفة عامة، والروائي بصفة خاصة. ومن المعلوم كذلك أن العنوان هو عتبة النص وبدايته، وإشارته الأولى. وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النص وتسميه وتميزه عن غيره. وهو كذلك من العناصر المجاورة والمحيطة بالنص الرئيس إلى جانب الحواشي والهوامش والمقدمات والمقتبسات والأدلة الأيقونية.

2 ـ الاهتمام بالعنوان:
لقد أهمل العنوان كثيرا، سواء من قبل الدارسين العرب أم الغربيين قديما وحديثا، لأنهم اعتبروه هامشا لاقيمة له وملفوظا لغويا لايقدم شيئا إلى تحليل النص الأدبي؛ لذلك تجاوزوه إلى النص كما تجاوزوا باقي العتبات الأخرى التي تحيط بالنص. ولكن ليس العنوان" الذي يتقدم النص ويفتتح مسيرة نموه- يقول علي جعفر العلاق- مجرد اسم يدل على العمل الأدبي: يحدد هويته، ويكرس انتماءه لأدب ما. لقد صار أبعد من ذلك بكثير. وأوضحت علاقته بالنص بالغة التعقيد. إنه مدخل إلى عمارة النص، وإضاءة بارعة وغامضة لأبهائه وممراته المتشابكة (...) لقد أخذ العنوان يتمرد على إهماله فترات طويلة، وينهض ثانية من رماده الذي حجبه عن فاعليته، وأقصاه إلى ليل من النسيان. ولم يلتفت إلى وظيفة العنوان إلا مؤخرا."
للعنوان دلالة خاصة لأنه يمثل مجموع النص الروائي ويحاول أن يجمل كل علائقه، ويعبر عن كل مكوناته، ويلخص مجمل موضوعاته، ويكشف عن الشكل الفني المتبنى في النص، فالعنوان حسب ياوس، مستوى من مستويات السياق الداخلي لأفق الانتظار الذي يتشكل خلال احتكاكنا بالنص. وعليه: فما أفق
الانتظار الذي نخرج به من قراءتنا للعنوان ..تتكون من مركب اسمي محذوف أحد أطرافه وهو المبتدأ هنا، الخبر جاء مشكلا من كلمتين، واحدة نكرة والثانية معرفة، فأطفال جاءت معرفة بالليل، وبذلك تكون شخصيات النص الأساس والمرسومة على صفحة الغلاف لا تتخذ هويتها وتعريفها إلا من الليل. إن الليل هو الذي منحها الوجود ومكنها من الحضور، وبناء عليه يمكن القول: إننا أمام شخصيات ملتبسة غير واضحة، تتميز بقيم غير سليمة مادام أنها ترتبط بزمن يستدعي كل السلبيات، وقد تكون مرتبطة إكراها بهذه الفسحة الزمنية للقيام بأعمال ما، بفعل ظروف خاصة أو عامة.
فالطفولة مرحلة عمرية، ينبغي أن تتمتع باللعب واللهو وممارسة كل الحقوق التي تكسبها اليناعة والاستواء، ولربما كانت تلك الرقعة البيضاء الواردة باللوحة تعبيرا عن هذه القضية، وميل إليها ودعوة تستوجبها، وقد اقتطعت من بنية أرضية الغلاف، أي اقتطعت لها من حيز أكبر، موسوم بالتعب والشقاء حيزا أصغر يتصل بها، ويسعدها، ويعد بالتالي فسحة زمنية لتحقيق الارتواء...
3 ـ عتبة الإهداء،وظهر الغلاف:
عتبة الإهداء:
تم الإهداء لأخوي الكاتب: أحمد ومصطفى. الأول لأنه كان من مشجعيه على نشر العمل، والثاني لمساعدته. وهو تكريم يبرز فيه الكاتب ذلك الارتباط العاطفي بأخويه، بشكل خاص وبأسرته بشكل عام. إنه إعادة اعتبار لأبيه في شخص الإخوة...
وبظهر الغلاف جاء التعريف بالروائي، وهو أمر طبيعي لأن العمل الذي بين أيدينا يعد الأول في مساره، وبالتالي فلابد من تقديم ورقة تعريفية دقيقة به.تشتمل على تاريخ ولادته، ومساره التكويني، والعلمي ،مع الإشارة إلى إنتاجاته المنشورة قبلا ببعض الجرائد والمجلات، والتنويه إلى الجائزة التي حصل عليها سنة 1993.
4 ـ المتن الروائي:
ينقسم الى قسمين، قسم الطفولة والأعمال التي كان يزاولها الاطفال أيام العطل بإحدى ضيعات "الورود" مع ذكر المشاق. كل ذلك من أجل الحصول على نقود تساعد الأسر، وتمكن الأطفال مما يساعدهم على تحقيق بعض المتع.. إنه عالم القيم الايجابية حيث الاعتماد على النفس وإدراك معنى العمل، رغم صعوباته وأخطاره، ولا يفوت السارد الاشارة إلى الاختلالات الاجتماعية بين طبقتين: واحدة فقيرة والثانية غنية، وهي طبقة المعمرين أولا، والذين حلوا محلهم من المغاربة ثانيا. ويركز السارد على مساكنهم وطريقة أكلهم ومشيتهم، وكل الأمور الخاصة والعامة.
وفي القسم الثاني تم التركيز أساسا على ثلاثة اطفال، وبقدرة قادر، تحولوا الى وجهاء المدينة، باعتماد تهريب الحشيش، والمتاجرة في الممنوعات. هؤلاء الثلاثة الذين كانوا من الطبقة الفقيرة، ويتميزون بطباع غير قويمة منذ البداية، وكأّن مسار حياتهم قد تحدد بالوراثة، لأن الاستعداد في مزاولة الأنشطة الممنوعة كانت بادية عليهم. وبين القسمين تقع أحداث واقعية تشكل علامة فارقة بين المرحلتين: لحظة قيم إنسانية رفيعة، ولحظة قيم منحطة.. إنها أحداث الإنقلابين الخطيرين اللذين هددا استقرار البلد، وكانا بداية ظهور مرحلة جديدة، يمكن وسمها بمرحلة الانفتاح، حيث سيتم بروز الكثير من الاختلالات على مستوى القيم وعلى مستوى الثقافة والاقتصاد والسياسة... ولعل من أبرز سماتها ظهور طبقة غنية فاحشة الثراء، وطبقة فقيرة تعاني الويلات..مما هدد الاستقرار الاجتماعي، حيث شهدت البلاد العديد من الاضطرابات الاجتماعية المطالبة بالعدالة والحرية وبالخبز أساسا...
كيف عمل السارد على احتواء هذه الفترة الطويلة من عمر الاشخاص: من الطفولة الى الكبر؟
اعتمد السارد على تقنية الاختزال والحذف...وما لفت انتباهي، هوحضور تقنية خاصة بالسارد، والتي تدل على تشبع الروائي بالرؤية الدينية..وأيضا تقنية المجمل والمفصل، إذ في كثير من الأحيان يقدم لنا شخصية أو حدث بشكل مجمل في جملة أو جملتين، وتأتي الصفحات الموالية لتفصيل القول فيها، وأحيانا تكون هذه التقنية وسيلة للربط بين فصول الرواية أو بين بعضها على الاقل، من ذلك نهاية المقطع السابع، وبداية المقطع الثامن، وكذلك الأمر بالنسبة لنهاية المقطع الثالث وبداية المقطع الرابع.
يحضر الوصف بشكل كبير في الرواية، وهي طريقة لتعطيل السرد وتكسير سيرورته. والوصف يلعب أدوارا أخرى كالتعريف بالشخصيات: شكلها، طريقة تصرفها، ومشيتها، وغير ذلك. كما يحضر لخلق المقارنة بين الوضعيات والطبقات. وللمكان حضوره القوي، فهو "الضيعة" و المنزل، ومكان الحلاقة، الذي عرف تدهوا فظيعا بعد ان كان مزدهرا بسبب المحلات العصرية.
الرواية تحكي عن هؤلاء الأطفال وهم يشقون ويعملون في قطف الورد بإحدى "الفيرمات" ليلا . ويتتبع السارد مسيرة هؤلاء الأطفال حتى يكبروا، ويأخذ كل واحد مسارا مختلفا.. هذه الشخصيات تمثل عالما مستقلا، وتمثل شريحة من شرائح المجتمع، وتحيل إلى عالم من العوالم في حركيته وتموجاته عبر مصائر مختلفة، ومتقاطقة أحيانا. ومن خلال شبكة العلاقات التي تنسجها هذه الشخصية أو تلك، مع محيطها أو مجتمعها أو مع نفسها.
والرواية تكشف عن "تيمات" يمور بها المجتمع، ويأخذها الكاتب بعين ناقدة. يعري ما فيها من فساد من أجل إصلاحها وتجاوزها إلى الأفضل.
وقبل الإشارة إلى هذه التيمات _الطيم بحسب الأستاذ رشيد بنحدو_ أود أن أشير إلى احتفال الرواية بشخصيات من الطبقات الاجتماعية المسحوقة، تلك التي تكتوي بنار شظف العيش، دون أن يمنعها ذلك من السعي جاهدة لاقتناص لحظات المتعة العابرة...والكاتب (معمر بختاوي) استهواه المهمش والهامشي في درجاتهما القصوى...

5 ـ تيمات الرواية:
أ) سلطة الأب والكابران:
أعلى هذه السلط يمثلها الأب ( الشيخ عيسى) مع أولاده. فهو من طينة الآباء الذين يظهرون قسوة بالغة مع أبناءه و زوجته ( في البيت)، وفي نفس اللحظة يكون متسامحا ضحوكا مع النساء في الخارج. هذه الازدواجية تطرح علينا أكثر من سؤال. ماذا يريد الكاتب من خلال هذا النموذج ؟ أهو تنفيس عن العمل الذي يشغله ليلا، أم هو تنفيس عن مكبوتات عانى منها الأب في طفولته، فجاءت كردة فعل يمارسها على أبنائه، أم هي نفسية الإنسان العربي المقهور عبر القرون الطويلة.. وتجلى في كل أنواع السلوكات، فهو يحرمهم من الأكل، ومن اللعب، ومن أبسط حقوق الأطفال، ولا يترك لهم فرصة الرد أو المناقشة. يقول لأحد أطفاله:
(...انهض، اخرج، إن أسيادك وصلوا " الفيرما". انهض الله يمسخك.) (... انهض يا وجه القرد...) (ص13)
وهو يدفع بأبنائه إلى العمل دفعا، وهذا مخالف للعواطف الإنسانية، ولكل القوانين والشرائع التربوية الوطنية والدولية والأخلاقية. فمن حق الأطفال الرعاية التي يحتاجونها .ونتساءل لماذا لا يحس هذا الأب إزاء أولاده بأية عاطفة. فمن حقهم اللعب والراحة والاستجمام والتخييم والترفيه. بالعكس هذا الأب الذي يرى في أبنائه مجرد مصدر دخل إضافي يزداد على مدخوله الهزيل. فهو يفرغ الغضب الذي يتلقاه من طرف مشغله، وهو تنفيس أيضا عن تأزمه، ومعاناته من عمله الليلي، وهو الحارس الذي يريد أن يكون أولاده كذلك القاضي الذي يحرس (فيلته) ليلا، ولا يعيدون التاريخ، فيشبهونه في العمل حراسا ليليين.
وكذلك يتجلى الوجه الثاني للسلطة في الأجنبي " الرومي" الأوروبي الذي يهابه الجميع، بما في ذلك " الكابرانات" والأطفال ..فهو يخيفهم بالكلب الذي يصاحبه دائما. ويتجلى الوجه الآخر للسلطة في هذه المؤسسة التي تشغل هؤلاء الأطفال، وتستغلهم أبشع استغلال، تشغلهم ليلا لقطف الورد، مستغلة فقرهم وعوزهم للنقود، ولقضاء بعض حاجياتهم كشراء اللوازم المدرسية. بحيث أن العاملين في هذه "الفيرما" هم من الأطفال.
السارد يحكي عن وضعية هؤلاء الأطفال بضمير المتكلم، فهو يعايش الأحداث من أولها إلى آخرها. لأنه مشارك في الأحداث. وهو يصف مجموعة من الأمكنة وينطق دلالاتها، ويعبر عن أزمنة مختلفة بين ليل ونهار...ويمر السارد في هذه الرواية ( أطفال الليل) على الفوارق الطبقية التي تتحكم في النسيج السردي لهذه الحكاية. فهناك من جهة الطبقة المحظوظة من الأطفال الموسرين، الذين لم يعرفوا " الفيرما" ولا سمعوا بها، فهم بمجرد انتهائهم من الدراسة يسافرون إلى الخارج، أو يذهبون مع آبائهم في عطلة مريحة، وعندما تنتهي يعودون منشرحين مبتهجين ...
أما أبنا الفقراء، "أطفال الليل" فهم أولاد المحن والعذاب والعمل ليلا. كيف نتصور أن طفلا في العاشرة أو الثاني عشر يعمل الليل كله، ويذهب مسافات على دراجة هوائية هو وأخوه ورفاق دربه .هؤلاء الأطفال عانوا الأمرين من عمل الليل في قطف الورد، ومن السهر.. وكذلك عانوا من الضرب المبرح من طرف الكابرانات : (...بدأ الكابران يضربني ويضربني.. حتى فشلت يداه، (الوعل ينطح أرنبا) ثم جرني وطرحني أرضا.. ركلني بحذائه الغليظ ركلات كيفما اتفق، لا يميز الوجه عن الرأس والبطن. وأنا أستغيث ولا مغيث..ص (27)

ب ) سلطة الكابران:
في هذا المجتمع الإقطاعي الطبقي، يهيمن الرجل صاحب الفيرما على الجميع، ويستعمل "الكابرانات" والحراس والكلب وسائل لترهيب الأطفال. وهؤلاء الكابرانات يشكلون وسائل لقمع الضعفاء والمستخدمين الغلبة أمثالهم، فيغيب الوعي عنهم في ظل ظروف صعبة وقاسية.
وفي الرواية أيضا نقد للشباب السلبي من أبناء الأعيان الذين يهتمون بالمظاهر فقط، ولايهمه سوى اللباس والعطور والروائح، واتباع الفتيات في الشوارع.. والفتيات اللواتي ينخدعن بالمظاهر الخارجية.
طبقية المكان:
الرواية تحمل مفارقة في المكان: فهناك المدينة، وهي بدورها تنقسم إلى:
1 ـ : أحياء هامشية فقيرة عديمة التجهيز أو تكاد. 2 ـ أحياء مضيئة بشوارعها النظيفة الفسيحة التي تركها الاستعمار حين ولى أدباره للموظفين الكبار والسماسرة الذي ابتاعوها من المعمرين بأبخس ثمن. والقسم الآخر هو المكان في البادية، أي ما بعد الساقية. حيث الحقول والبساتين وأشجار البرتقال و الكروم ..وهذا العالم يمتلكة الإقطاع، ويتخذونه مجالا لاستغلال الأطفال والرجال والنساء. فهم يشغلونهم بسعر زهيد. وطبقية حتى في الأسماء، وفي ما بين المدن. الرباط تتفوق على المدينة التي توجد فيها "الفيرما "هذه المدن الصغيرة هي التي تخدم المدن الكبرى. ولا تستفيد مما تنتجه، بل تصدر كل شيء إلى المدن المحظوظة.

استغلال النساء:
وتتجلى هذه التيمة في استغلال النساء، فيختار الحاج من النساء الجميلات الصغيرات، وربما استغلهن في أغراض أخرى غير العمل في الحقول . أما العجائز اللواتي لا يحظين بفرصة عمل، فيرجعن إلى بيوتهن خاويات الوفاض مقهورات مغبونات.وكذلك يوجد استغلال "حسين" للفتاة التي غرر بها وضيع شرفها وبدأ يمنيها بالزواج…
( ...علت صرخة شابة مدوية في الغرفة، أرجعتها الجبال النائحات، وأزهار الدفلى اليابسات في الوادي. ضاع الشرف...لاتخافي سوف نتزوج... (ص92)
وكذلك في ما بين الرجال الذين يتمتعون بقوة عضلية تمكنهم من حمل الصناديق الثقيلة، فهم أوفر حظا في العمل من الضعفاء أو الصغار، أو الكابرانات الذين يتحرشون بالفتيات الصغيرات، ويحاولون أن يستغلوا سلطتهم للتستر عليهن في ترك بعض الورد في الأشجار دون محاسبة أو مراقبة.

تيمة التحول:
جاءت تيمة التحول لتفضح المرض الذي انتشر سريعا في هذه المدينة وفي غيرها من المدن المغربية، إذ انتشرت مجموعة من الموظفين الذين زاوجوا بين عملين، ولكن على حساب العمل الوظيفي الذي يتقاضون عليه أجرا، وهو الأصل. وبعضهم كان إذا زاوج بين عملين أهمل عمله، أو لم يعره حقه من الجهد والعناية.
وينضاف إلى هذا التحول السلبي عند بعض الموظفين أن انتشر الجشع. وبعض المثقفين الذين تخلوا عن دورهم القيادي في التوجيه والتوعية، وانصرفوا إلى مآربهم الخاصة. وتنافسوا مع تجار الحشيش و الخمور في بناء الفنادق والخمارات، ودخول سوق السمسرة والعقارات، أو انخرطوا في أحزاب، الغرض منها الفوز في الانتخابات البلدية والبرلمانية.

الفضاء في الرواية:
يتنوع الفضاء في الرواية بين "خارج" المدينة، حيث (الفيرما) التي يشتغل فيها الأطفال، والمدينة حيث تدور أحداث هؤلاء عندما يكبرون ويشقون طريقهم كل واحد وفق مصيره. والرواية تصور الشخصيات بأسلوب يمزج بين الواقعي والشعري. بحيث أن اللغة تصبح الوسيلة التي يركبها السارد ليبلغ لنا ما بداخل الشخصيات ونفسياتها. فنحن نعيش الأحداث بعين الطفل السارد، ثم بعين الشاب الذي أصبحه في ما بعد. نتابعه في رحلته، التي يعرفنا فيها بالشخصيات الأخرى كل واحدة على حدة. ونتعاطف مع هؤلاء عبر لغة تنحو نحو "الغروتيسك "أي التهكم والسخرية من الواقع المر.
يصور الكاتب (معمر بختاوي) في هذه الرواية، كيف أن المدينة تحولت في ظرف وجيز من مدينة هادئة وديعة إلى مدينة للنصابين والمحتالين.. تحولت كلعنة أصيبت بها فجأة…(بدأ الناس في التحول...تحول الكثير، تحولوا من موظفين و معلمين وأساتذة وممرضين وعمال في البلديات، إلى سماسرة أو مقاولين أو مربي نحل أو فلاحين أو بائعي سيارات مستعملة..)( ص73) .ولكن هذا التغير لم يكن قدرا مقدرا، إنما من فعل الإنسان وجشعه ورغبته في الربح السريع، كمزاوجة البعض بين وظيفته و عمل آخر في السمسرة أو الوساطة بين العقار والمقاولين، أو تحول البعض من حرفة الكتابة أو متابع للثقافة إلى متابعة أرقام البورصة والبيع والتجارة،
وكأنما الجميع يريد أن يصبح من الأغنياء في بضع سنين فقط.كما ان الكاتب أشار إلى بعض السلبيات التي وقعت في هذه "الفيرما"، بما في ذلك استغلال الطفولة، والعنف ضد الأطفال.

6 ـ تيمة السخرية.
لاشك أن السخرية شكل من أشكال التعبير التي تـجسد وعي الذات تجاه ذاتها لحظة ضعفها وفقدانها لملكاتها، وبالتالي فهي موقف استرجاعي، يهدف من خلاله المبدع إعادة التوازن للذات اتجاه ذاتها و اتجاه العالم، و أيضا لتحويل ما يفترض أنه عجز وألم وانكسارات إلى لحظات قوة و انتصار وتسامي. وإذا لم نتسام على الألم والضعف، معناه أننا نبحث في ثنايا العالم المختل والمقلوب عن فسحة لاسترداد أسباب القوة الكامنة داخلنا، والتي تتقاطع وأحلامنا الهاربة وأوهامنا المنفلتة.
إن اختـيار الروائي الـمغربي ( معمر بختاوي ) في روايته " أطفال الليل"، استثمار السخرية في عمله الإبداعي، هو وعي منه لما يتميز به هذا الأسلوب من انفعال ساخر، يعكس رؤية مغايرة للعالم تنبني على نقد الذات، ومحاكمة المجتمع، وفضح القيم. وعليه نجد حضور السخرية لتحقيق مجموعة أغراض، كالسخرية من أطروحة شخصية ما، أو بتسفيهها وتبيان هشاشتها كما في المقطع الثاني، حيث يجري حوارا بين مجموعة من الشخصيات، يستشف منه إظهار موقف "فريد" المتهالك، فهو يشتغل في الضيعة، ويتعب كما يتعب الباقون، ورغم ذلك، يتبنى خطاب المستغِلين، ويسعى إلى إظهار نفسه ذا قيمة، عبر ذكر مكانة خاله، وعلاقته بصاحب (الفيرما)، يقول:( ...خالي الذي يعمل في الرباط، يعرف صاحب الفيرما.فهما صديقان. يسهران معا في أماكن ممنوعة على بقية البشر..يملك المال الكثير، هو الذي يقرض البنك عندما يفرغ من المال.مثله لا يحسون بمثل هذه الضيعة الصغيرة…).ص17 ففضلا عما يستبطنه هذا القول من إحساس بالدونية والضعف، إلا أنه قول يسعى القائل من ورائه إلى تحقيق التعويض..ويأتي الرد سريعا من طرف "المختار" الذي يحمل خطابا ساخرا من قول "فريد" :( ...خالك يعرف مثل هؤلاء و أنت تعمل في الورد؟..)ص17، يحس فريد بالحرج، ولكنه يعاند برده،حين يدعي أن العمل مهم كيفما كان، وهنا يأتي تعقيب قاتل يضرب بقوة منطق فريد و يحيله هباء، (..وخا حتى في الزبالة…)ص17
إن كلمة الزبالة ليست تحقيرا لمثل هذا النوع من العمل، ولكنه ضربة صادمة لايقاظ فريد من غفلته وتماهيه..وبناء عليه نجد أنفسنا أمام مقابلة بين وضعيتين، وضعية الأسياد الذين يتمتعون بملذات الحياة على حساب عرق الضعفاء، ووضعية الكادحين الذين كتب عليهم العذاب والحرمان..إنه موقف نقدي ساخر من الطبقية المقيتة..
هكذا إذن، تتأسس السخرية على أساس المفارقة الضدية، حيث تبرز الهوة السحيقة بين طبقتين متناقضتين، وهي الهوة التي رفعت من درجة التهكم والسخرية على وضع بالغ السوء، من جهة، وعلى أفراد لا يعون وضعيتهم الصعبة، من جهة ثانية.
كما أن السارد يعمد إلى المزاوجة بين تشخيص الوضع بمفارقاته بلغة واقعية، ترصد المفارقات وبين استرجاعات مرتبطة بالماضي التي تمثل له واقعا أفضل من الحاضر..فبالرغم من أن الماضي شهد استغلالا وقهرا للشخصيات، فإن حصول البلاد على استقلالها وتخلصها من المعمرين الذين كانوا ينهبون خيرات البلاد بقوة أبناء البلاد، لم يأت بتحول إيجابي، بل أكثر من ذلك، سار باتجاه سلبي، لم يكن إلا وبالا على الطبقات المسحوقة، وهو ما يبرر حنينها إلى تلك الفترة الأقل سوءا، وخيرا على طبقة الانتهازيين الذين أصبحوا يشكلون فئة الأغنياء الجدد، وورثة المستعمر. يقول السارد :(..عندما غادر الفرنسيون البلاد تركوا مكانهم لأشباههم في كل شيء، في اللباس، والعادات، والكلام والمشي وتقطيعة الشعر..في كل شيء. والمحظوظون هم الذين يعرفون كيف استولى هؤلاء الأغنياء الجدد على الأملاك و الأراضي و الضيعات والفيرمات الكبيرة..)(ص 11)
إن موقف السارد الساخر لم يأت اعتباطا، بل تعبيرا عن موقف الرفض من فئة ممسوخة استولت بغير وجه حق على الأملاك العامة، وحولتها لصالحها تنتفع بها، وتحرم الآخرين منها..ولم تكتف بذلك، بل قامت بإحداث تغييرات مشوهة بغية مزيد من الغنى .. يقول السارد و اصفا التغيير الحاصل: (.. لم تبق شجرة واحدة، فقد اجتثت كل الأشجار.فالأرض أصبحت حمراء خالية من البيوت الصغيرة التي كنا نزن فيها.أصبحت مغرسا للبطاطس والخضر الأخرى..(ص99)
إنه واقع مرفوض بالنسبة للشخصيات، وتحول إلى الأسوأ، وحنين إلى تلك الفترة من الماضي الذي مثلت فيه (فيرما) (الورود) إنقاذا حقيقيا من الفقر ومدتهم بالنقود..أما الآن فقد أصبحت الضيعات بقرة حلوب لا يستفيد منها إلا صاحبها..ونتيجة هذا التحول السلبي الماحي لذكريات جميلة، رغم ما حملته من مرارة، يرصد السارد سعي فئات عريضة إلى إجراء تغييرات على حياتها هي الأخرى، بدا إحداث التغيير العام، يقول السارد ساخرا: (...بدأ الناس في التحول... وجاءت الانتخابات فاقتحمها البعض معتمدا على الأموال والحشيش وعلى الرصيد السياسي السابق الباهت، بنوا المقاهي والعمارات للكراء، وانتقلوا إلى المدينة الشاطئية يبحثون عن الربح مهما كلف الثمن.)ص 73_74
هكذا نجد نبرة السخرية في كلام السارد من هذا السعي المحموم لجمع المال من أغلبية الناس، وصراعهم المرير لكسبه وإنفاقه في الملذات..تكالب يؤرخ لانقلاب القيم من الايجاب إلى السلب. إنه نوع من التحسر لما يحصل ورثاء له، ويقف موقف المصدوم من أحلام مجهضة في الزمن الراهن. فهناك نفور من هذا الراهن وتهكم و سخرية منه، وحنين إلى الزمن الماضي وانشداد له، دون أن يعني ذلك الرغبة في البقاء أسرى الاستعمار..فالسارد وهو يسخر، يجسد المفارقة بين زمنين، أو بين واقعين لا ثالث لهما، فيغيب الحلم والمستقبل، الحاضر القاتل للأحلام، والماضي الجميل والمحافظ على القيم الايجابية الرائعة، والمقطع التالي يظهر ميل السارد إلى الماضي العابق بالتقاليد الجيدة، يقول :( ...و لما علم الحاج العربي، وهو خال الزبير، بالأمر دعا الأسرتين إلى وليمة في بيته، وكان مسموع الكلمة مهيب الجانب، وأجلس عائلة الزبير عن اليمين وعائلة عائشة عن الشمال. وعندما جمعهم في منزله الكبير خاطبهم :عيب ما فعلتموه، أنتم جيران...و لما
سمعوا المحاكم و المحامين و السجن، سكت الجميع، ورضوا بالصلح) (ص96)
وإذ نجد السارد ينتصر للقيم الجيدة، ويقف موقف المعارض من تلك السلبية الآتية مع رياح التغيير، نود أن نشير إلى مقابلة ساخرة بين الاثنتين، عبر حفل يراد الجمع فيه بين المتخاصمين السابقين،و يدار الصراع الذي حصل مرة حين سعى الزبير إلى التحرش بعائشة..يرسم السارد طقوس تهييئ الحفل و الفرحة المصاحبة،يقول السارد :( ...اقترب يوم العرس.الكل مبتهج، الكل يتحرك. أصبح البيت كخلية نحل.(100)
ثم ينتقل إلى رسم صورة مناقضة تجمع كل عناصر الطرافة والسخرية بفعل ماجريات الأحداث. حيث ستظهر على مسرح العرس زوجته الأجنبية صحبة ابنتيها، تتوقف أمام العريس وتسبه بلغتها الأجنبية..وهنا ينقلب الحفل إلى ساحة وغى، وينفض الجمع، يقول السارد راسما ما حل :(..انقطع التيار، وسادت الظلمة، فلا ترى شيئا. توقفت ساعة الكون. عاد التيار فجأة للكون، الزجاجات تكسرت فوق الرؤوس والكؤوس تطايرت في الهواء. وصحا الجميع، وانقلب العرس مأتما...)ص102
هكذا نجد أن "الزبير" تحول من حامل لقيم ايجابية إلى حامل لنقيضها، إنه اتخذ لنفسه طريق الغش، فحصل ما حصل..إن السخرية تنبع من المقابلة التي حصلت بين لحظتي التهييء للعرس، ولحظة ظهور الزوجة الأولى، وقد كان الرسم ساخرا من أثر الأفعال التي أتى بها الحضور، والتي غاب فيها المنطق وحضرت الغريزة...
هكذا تحققت السخرية في رواية ( أطفال الليل) عبر المفارقة، والتعارض بين طموحات الذات، وبين ما يصير إليه الواقع من تحولات من السيء إلى الأسوأ و توالي الخيبات. وقد اشتغلت السخرية كآلة دفاعية ضد القهر في صراع الشخصيات مع واقع مترد، مع سعي السارد إلى المقاومة في صيغ ساخرة تلتقط مفارقات الواقع و انتقاده..

7 ـ لغة الرواية:
تتميز رواية " أطفال الليل" بلغة شاعرية رقيقة، تمتح من اللغة الواصفة واللغة الشاعرة. فهي تنقل الواقع ولكن ليس بحذافيره، ولا بواقعيته الفجة، وإنما تصبغ هذا الواقع بصبغة شاعرية، فيها تشكيل جميل من التشبيه و المجاز والرمز. يقول السارد :( أرى القمر كملك أسطوري وسط الوزراء، ينظرون جميعا إلى العبيد يتصارعون على بقايا نقود حتى الموت...) ص22. فصور الأطفال وهم يعملون في الليل كعبيد يتصارعون على الحصول على كمية قليلة من النقود، وصاحب " الفيرما" هو القمر الذي ينظر من فوق، وهم يقتتلون في الأرض على حطام الدنيا. وهذه الصورة استلهمها من المجتمع الروماني الذي كان يدفع بالعبيد للتقاتل في مابينهم من أجل الترفيه عن الملوك و الأباطرة. ويقول أيضا:( ...يهوي بي "الكابران" من سمائي إلى أرض الطين و الشمس والغبار...) ص 22.والسارد هذا الطفل الغارق في عوالم أخرى، الحالم بواقع آخر أكثر جمالا، وأكثر إشراقا وأقل عنفا وشرا وقبحا واستغلالا، يأتي "الكابران" فجأة فيوقظه من حلم اليقظة، منبها إياه ومرجعه إلى الواقع المحسوس بوخزة من عمود، فيفيق الطفل ويرتطم بالتراب والغبار والشمس المحرقة ..
ولغة الرواية تتناص مع بيت للمتنبي، وأغنية للحسين السلاوي ( يا موجة غني ..) وأغنية لأم كلثوم (أنت عمري ضايع..) وتتناص مع أغاني محلية تتغنى على شكل حوار... وفيها لغة التهكم والسخرية .
وكتبت هذه الرواية بأسلوب سلس و ممتع ومتين، يفاجئ القارئ بانسيابيته وجمله السردية التي تحكم الكاتب في بنائها بشكل يفي بالغرض.
ــــــــــــــ
1 ـ معمر بختاوي : أطفال الليل، رواية، منشورات دار التوحيدي،ط 1 ، 2010، ص 13
2 ـ مصدر سابق، ص 27
3 ـ مصدر سابق ، ص92
4 ـ مصدر سابق ،ص 73
5 ـ مصدر سابق ، ص 17
6 ـ مصدر سابق ، ص 11
7ـ مصدر سابق ، ص99
8 ـ مصدر سابق،ص 73ً، 74
9 ـ مصدر سابق ، ص 96
10 ـ مصدر سابق، ص 100
11 ـ مصدر سابق ، ص 102
12 ـ مصدر سابق ، 22
13 ـ نفس المرجع. 

تعليقات