* محمد باقي محمدإذن وللمرة الثانية نحن في مقام القصّ ، بما اصطلح عليه بالـ : ق ق ج ، كجنس جديد لم يستو عوده بعد ، إن على مُستوى المُمارسة أو على مستوى التقعيد ، وهذه المرة نحن أمام قاص قادم من مغرب الجهات ، هناك حيث تطلّ الأرض على البحر المتوسط شمالاً ، وعلى المحيط الأطلسي غرباً ، حتى موريتانيا في الجنوب ، وإلى الشمال من جبال الريف ، تطل على أحد أهم ممرات العالم البحرية ، حيث ألقت عصا الترحال والفتوحات والغزوات بكّل من موسى بن نُصير وطارق بن زياد ، والأوّل عربيّ انتقل إليها بتكليف من الخليفة الأموّي إذاك ، في حين أنّ الثانيّ بربريّ – أي أنّه من سكان البلد الأصليّين ، وإليه سيُنسب الممر ، فيُطلق عليه ممرّ جبل طارق !
والقاص هو ميمون الحرش من المملكة المغربية ، فما هي المضامين أي ما يُصطلح عليه الأطروحيّ بلغة النقد ، وكيف اشتغل الحرش فنياً على متنه !؟
عنونَ الحرش قصته بـ ” أكباد مقروحة ” ، والسؤال أن لمن هي هذه الأكباد المقروحة !؟ وهل يقصد بها أكباد البشر !؟ ثمّ من أين جاءتها تلك القروح !؟ ولا نظنّ أنّ عنواناً كهذا يُثير زوبعة من التساؤلات يشكو من ضيق في المساحة التي لعب الحرش فيها على التشويق ، ليشي عنوانه بفضاءات نصّه ، من غير أن يُفصح عن متنه كاملاً ، ويفضح أسراره ، بما كان سيقتل لعبة التشويق تلك ! تأتى للقاص إذاً أن يقوم بتقديم عتبة مُمهدّة لنصه عبر علامات وإشارات يُصطلح عليها بالوظيفة السيميائيّة والمعرفية الموكلة إلى العنوان ، ليدفع القارىء إلى قراءة المتن ، بهدف الكشف عن خوافيه !
وفي الأطروحي ، ستسمع شخصيته المحوريّة عن سوق لبيع الأكباد السليمة ، يتمّ استبدالها بأكباد العباد القادمين من كل فج بأكبادهم المقروحة ، ومرة ثانية ، سنقرّ بنجاح الحرش في ربط عنوانه بالمتن ، لكنّ شخصيته المحوريّة إذ تصل إلى تلك السوق تتفاجأ بأنّ الأكباد قد بيعت عدا كبد وحيدة كُتب عليها ” للنساء فقط ” ، فأسقط في يده ، وأصرّ على تركيب الكبد النسائيّة تلك ، تحت إصراره رضخ النطاسون ، لكنهم طلبوا منه شهادة حسن سلوك ، وحسن السلوك هذه ورقة مختومة من سلطات العالم الثالث كلّه تطلب عند التعيين في الوظائف ، أو المُعاملات التي يقدّمها المُواطن للدولة ، في ظاهرة عالمثالثية بامتياز ! غير أنّ الحرش يلعب على الانزياح ، ليُشير إلى مكانة المرأة ، المُتهمة بأنّها مشروع زانية ، على حد تعبير التونسيّ الميلودي شغموم إلى أن يثبت العكس ، ولتستمرّ هذه النظرة الذكوريّة الفظّة في سلوكنا كموروث شائه ، قائم على الميثولوجي ، أي أنّ أصحاب هذا الرأي وضعوا المُتعاليّ والمُطلق الدينيّ في خدمة النسبيّ الأرضيّ لمصلحة شهوات البشر ، ولخدمة المصلحة الذكوريّة ، باعتبارنا قوامون على النساء ! المُواربة تشير إلى فطنة القاص في التقاط لحظة المُفارقة ، وتحويلها إلى حدث مركزيّ يفرّقها عن الخاطرة والمقال وقصيدة النثر أيضاً ، ذلك أنّ الـ : ق ق ج نثر قصصيّ جاء بعد انعطاف في القصة العالميّة فالعربية نحو قصة الحالة أو اللحظة أو المناخ ، فمحت جزءاً آخر من المسافة بين النثر والشعر ، في استجابة لنداء كان الشاعر الكبير أدونيس قد أطلقه ذات فجأة ، يدعو فيه إلى إنتاج نصّ عابر للأجناس أو خارج التجنيس !
وفي الفنّي سنجد حدثاُ مركزياً يقوم على استبدال الأكباد المريضة بالسليمة ، وهذا أحد الشروط الفارقة بين النثر والشعر بعد ، أمّا التكثيف – أي أن نقول أكثر ما يُمكن من المعاني بأقلّ ما يُمكن من العبارات – فسنجده مُتحققاً في نصّ الحرش ، نصّ كهذا مُطالب بخلق انزياحات في اللغة عن استعمالاتها الدارجة ، لغة شاعرية تقوم على الإيحاء والإحلال والإبدال والنحت والاشتقاق ، لتقول قصته عبرها ما لم تقله علانية ! هنا ستخذل اللغة القاص ، إذ لجأ إلى الفعل الماضي ، في إحالاته إلى سرد تقليديّ ، ليحضر ضمير الغائب الشهير ” هو ” ، ولنكون في حضرة السارد العليم ، وعليه سنجد الزمن الفيزيائيّ التقليديّ ، الذي تسيل سيالته من الماضي نحو الحاضر فالمُستقبَل ، فهل نحن أمام مُزاوجة بين تقليديّة ، أحسنَ الحرش توليفتها بحسب الشكلانيين الروس ؟! وهل نُسامحه – مجازاً – لمصلحة ذكاء في التناول والدلالات !؟
القفلة جاءت كما هي مُتوخاة على الصادم والمُدهش ، أي على المُفارق ، فهل تشفع للحرش اجتراح الجديد بأدوات تقليديّة !؟ ولكن من منّا يجرؤ على الزعم بأنّ السرد فقد دوره تماماً !؟ كل ما في الأمر أنّه ترافق مع أسايب حديثة أطلّت برأسها ، مع تطور علم النفس على يد فرويد وتلاميذه ، بعد أن تطوّر علم الاجتماع على يد عالم فذّ كابن خلدون !؟
نحن في حضرة قصّ مُتماسك إذاً ، ولكن ألا يُمكننا أن نجترح النصّ بأدوات أخرى !؟ أدوات أكثر حداثة ، كالفعل المضاع في إحالاته إلى ضمير المُتكلّم أو المُخاطب على سبيل التمثيل لا الحصر !؟ وهل نقوم بعمل غير ديموقراطيّ ، ذلك أنّنا نتدخل في خيارات القاصّ في قصّ قصته ، ولكن ألا يقتات النقد والنقاد على المنتج الأدبيّ بخاصة ، والفنيّ عامة !؟
نصّ كهذا ، قصير في قامته ، طويل في مقاصده ، لذلك أثار هذه الأسئلة كلّها ، وهذا سيدفعنا إلى الإقرار بأننا في حضرة نصّ ناجح ، ما اقتضى التنويه !
تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لحضورك واهتمامك