اللحظات الجمالية في العتبات النصية



لا شك أن الاشتغال في الشعرية ينهض على بلاغة الانزياح اللغوي قبل كل شيء، إذ إن اللغة تتمظهر في الاجتراحات البلاغية ( اللغوية ) المتقاطعة مع المعاني الوصفية التي تقبع في المعاجم، وبهذا يكون الصوغ الجمالي نتيجة لـ((استعارة كلام معين يفقد معناه على مستوى اللغة الأولى لأجل العثور على المستوى الثاني)) ([1]) وهنا يتماس توقعان أو يتقاطعان ضمن بنيتي الدلالة والتدليل:
 الأول: التحول الدلالي الناتج عن الانزياح التركيبي الذي يعمد الشاعر إلى اختياره ضمن كون دلالي ونفسي معين؛ للانفتاح على دلالات محددة، يعمل على تفعيلها ذلك التعالق بين العناصر والتقنيات التي يشترطها النص ضمن خصوصيته النوعية.
والثاني: الاشتغال التدليلي أو التأويلي الذي يعتمد التوليد المؤثث بموجبات الانفعال داخل العلاقات النصية ومستويات اللغة/الرؤيا. وهذا يتم بواسطة اجتراح مداخل قرائية لها القدرة على التفاعل مع النص وتذوقه ومن ثم اقتراح جمالية تأويلية تخترق سرانية النص، وتكشف الثراء الدلالي النصي لا اللغوي، كون الدلالة (نصي) والمعنى (لغوي) .
ولأن قراءة أي نص أدبي تقتضي التوغل في مفاصل النص والانفتاح على الموجهات القرائية التي تتيح التوصل إلى المسكوت عنه والمخفي والملغز وغيرها. فلا بد لهذه القراءات من التعدد قي كشف أسرار النص وجمالياته، وذلك من خلال فهم النصوص وتحليلها وفق مناهج وعلوم شتى منها الفلسفة وعلم الجمال والتصوف وغيرها. الأمر الذي يحتم على الباحث الألسني ضرورة الكشف عن العلاقات السياقية (التاريخية ، الاجتماعية، النفسية) التي تدخلت في إنتاج ذلك النص؛ للوصول إلى شكل الكائن الجديد، الماكث خلف تشكيلته الخطابية. وعلى الرغم من أن هذا المدخل يبدو عاديا ومبتذلا لأغلب النصوص الشعرية، إلا إنني رأيته ـ حسب ظني ـ يمتلك حضورا ضروريا في الفضاء النقدي الذي يتناول مجموعة ((تعرت فانشطر الليل)) للشاعر عبدالمنعم الأمير الصادرة عن دار افريقية/ تونس 2010. إذ تؤهل هذه المجموعة ـ بسبب كثرة المهيمنات النصية فيها ـ الباحث لتناول المجموعة في أكثر من بحث فالتقابلات الدلالية، والصور الشعرية ، وتداخل الفنون، وتقانات السرد، فضلا عن الإيقاع ، واللغة ، والتناص، والاستهلال، والخاتمة وغيرها تثير الكثير من التساؤلات في الخطاب النقدي مما حضتني هذه المهيمنات إلى فكرة تناولها في دراسات متعاقبة، وبشكل تفصيلي في مقاربات قادمة.
تتناول هذه المقاربة اللحظات الجمالية في العتبات النصية، بوصفها صفة جوهرية في عملية التذوق. وبعيدا عن التفصيل في المرادفات الاصطلاحية لهذه اللحظة التي تتكرر في مثل هذه المقاربات ومنها التجربة الجمالية والخبرة الجمالية والموقف الجمالي والإحساس الجمالي والشعور بالجمال واللذة الجمالية والمتعة الجمالية وغيرها في تفاصيلها الكثيرة، سيكون دخولنا إجرائيا ويقع في منطقة الرمز وحساسيته في علائقيات تفضي الى وجود يضج بثنائية المباح/المحرم المحرم . ومن أهم هذه اللحظات الجمالية التي تستفز القارئ وتبهره في هذه المجموعة هي اللحظة التي تبعث السرور قبل الإبهام / بعد الاغواء في العنوان بوصفه العتبة الأولى والمفتاح المركزي للنص، إذ تتشكل دلالته في فضاء ايروتيكي عام / خاص، فضلا عن تشكل دلالات أخر تستجيب لكل ممارسة تلق جديدة . فالدلالات التي يمكن أن يبثها عنوان المجموعة ((تعرّت فانشطر الليل)) التي يوحي بها المستوى التركيبي من جهة، والتردد الصوتي الذي جاء في مفردتين زمنهما ماض وهما (تعرَّت) و(انشطرَ) من جهة أخرى، تكمن في اجتراح التقابل الافتراضي لهاتين المفردتين، لا في سبيل الإثبات أو النفي ضمن بنيتين زمنتين متضادتين (ماضي/ حاضر)، وإنما في سبيل تقابل تتابعي أو تراتبي نحو (كان، يكون، كن) . فالفعلان الماضيان (تعرّت) و(انشطرَ) لا يفصلها سوى (الفاء) مما يوحي بحركية الفعل وعدم استقراره.  ويمكننا مقاربتهما ـ ضمن الاجتراح المفترض ـ فعلين مضارعين  (تتعرّى، ينشطرُ) ، في جمل افتراضية متعددة من مثل ( تتعرّى كي ينشطر) أو (تتعرّى حتى ينشطر) أو (تتعرّى لينشطر) أو (تتعرّى فينشطر) . وفعلين طلبيين ((تعرّي، انشطرْ)) في جملة (تعرّي وانشطرْ أيها الليل) . أي إن القارئ بإمكانه أن يهتك بأسوار ذلك الزمن ومحدداته ويحركه باتجاه الأزمنة المتحركة وهي تمثل صرخة عذاب داخلي. ويعمق هذه التقابلات الافتراضية صيغة (الإهداء) بوصفه العتبة الثانية والموازي النصي الجريء الذي يحمل ايروتيكيته وحراكه العالي ضمن المنظومة الجسدية ((إليها.. وهي لما تزل تعرّي أنوثتها أمام دهشة طفولتي....المجموعة ص4)). فالتعري والانشطار يندرجان في دلالة العنف الجسدي ويحيلان إلى المحظور والمحرم، وان اقتراف احدهما يؤدي بالضرورة إلى اقتراف الثاني لارتباطه الشديد به. ويشكل هذا التكثيف اللغوي الذي جاء في ثلاث مفردات وحرف تمظهرا حركيا في كل الاتجاهات التي تحاول فضح المسكوت عنه، إذ لم يعد بإمكانه البقاء في منطقة الخفاء، فتبدأ الأسئلة بفرض خياراتها، وتبرعم تخيلاتها، وقد يكون أحدها : لماذا ربط الشاعر التعرّي بالليل حصرا ؟ هل هذا المسكوت عنه هو الميثاق القار بينهما ولو في الفضاء الشعري تحديدا؟ هل يشكل هذا الفعل تعويلا على وهم أم التواطؤ عليه ؟ هل تجاوز الشاعر الذاتي والخاص إلى العام والمشترك؟ وغيرها من الأسئلة المفترضة.
أما المدخل بوصفه العتبة الثالثة التي تمنح القارئ فرصا أكثر للغوص في أعماق النص، فتشكل بنيته السطحية قطيعة بينه وبين العنوان والإهداء، وتشكل بنيته العميقة ـ وهي التي ربما قصدها الشاعر ـ تعاقبا ثانيا في وفرة الفضاء الايروتيكي بسرانية تغري بانغراس التوله في الانفعال الأنثوي بشتى الطرق، فالعلاقة بين عبلة وعنترة من جهة، والحرب من جهة ثانية، كانت تحمل سماتها الايروتيكية في نية وصول عنترة إلى عبلة بواسطة شجاعته التي تخوله الحصول عليها، بعد أن وضع والدها شرط الموت أمامه، فتحداه لغرض الانوجاد في فضاء ذلك الانفعال بأي شكل من الأشكال، حتى وان قاده ذلك الانفعال إلى الألم، فكثيرا ما يؤدي الألم إلى المتعة ويمنح الإنسان فرصا في دعم الانسجام والتوازن في الحياة وتحويل الإخفاقات والاحباطات إلى قوة. وقد تمظهر هذا في المقطع الأول بعد أن ترك الشاعر نهايته مفتوحة على التأويل (أما الآن.....) وهذا الفراغ في تشكيله البصري عند القراءة، والقطع الصوتي عند الأداء بشكل مسموع، يوحيان إلى تهويل أمر ما، ولا أظن الأمر يبتعد عما ذهبنا إليه، فالبياض والصمت قد زادا من بنية المسكوت عنه، وهذا ما فعّل التلقي والتأويل بمزيد من الدلالات التي أثرت قدرة المتلقي وجرأته في اقتحام النص واختراقه والتوغل في باطنه : 
(( قال الناقد: كان قديما/ عنترة/ يبصر بسمة عبلة/ في ضحكة سيف/ أما الآن ....... .....المجموعة 5 ))
أما الإهداء الداخلي فيشكل العتبة الرابعة فيما لو تجاوزنا العناوين الداخلية وعلاقتها بمتن القصيدة، فذلك يتطلب منا جهدا مضاعفا، سنحاول بعثرته في مقاربات قادمة تخص هذه المجموعة. وقد خلت المجموعة إلا من إهدائين :
 أولا: الإهداء الذي تصدر قصيدة (نورس)  وجاء تجسيدا وليس تجريدا (إلى فاطمة)، إذ عمد الشاعر إلى إيهام المتلقي وهو يرسم جدلية الخفاء والتجلي، فأخذ يصرح ويلمح، يعلن ويخفي، ووضع القارئ في مستويين: ما يقوله ويبوح به ويعبر عنه، وما لم يقله ويبقى في حاضنة المسكوت عنه. فهل (النورس) الذي مل قيد الأفق لينطلق عاليا هو (فاطمة) التي أهدى القصيدة إليها؟ هل الأفق الأول هو جسد الشاعر وصراعاته واحتراقاته ؟ والأفق الثاني هو افتراض تخلق في فضاء تلك الاحتراقات؟ أم كلاهما تشابكا في كون إيهامي، عمد الشاعر فيه إلى التغييب الدلالي وتشتته ولا نهائيته ومراوغته وإرجائه وتغريبه؟ ما التقنيات التي أتاحت للشاعر فرصة الابتعاد عن المنمط والقار وهو يخفي ما يريده من خلال المراوغة وإسقاط الألفة عن الأشياء؟ وغيرها من الأسئلة التي ستتوالد كلما عاودنا قراءة المجموعة.
تبدأ القصيدة بمفردة (نورس) وتتكرر هذه المفردة بصيغة لازمة شعرية ثلاث مرات لتعطي للقصيدة فضلا عن إيقاعها الخارجي، إيقاعا داخليا تكمن دلالته في إبدال (فاطمة) بالـ(نورس) فبدل أن يقول (لفاطمة) قال (لنورس) ولا نبتكر جديدا إذا قلنا: إن التلميح أبلغ من التصريح في المشغل الشعري في كل لغات العالم. فهذه المراوغة تصنع فضاءاتها في شعرية تختزن نضجا ووعيا وتمردا على ما هو متعارف عليه، وتكتنز رؤية تتخذ من المشروع الحداثي وصيرورته التجريبية تحولات حتمية رافقت المتغيرات الحياتية وهي تواصل جمالياتها مع الأسلاف وتنفصل إبداعيا عن فضاءاتهم، إذ تؤسس هذه الشعرية خصيصة تعمل على تأثيث أحاسيس القارئ بالترقب والقلق وتبقيه في نشوة مستمرة بين الخفاء والتجلي، إذ عمدت هذه الخصيصة إلى تجاوز المألوف في الذاكرة القرائية واجتراح تشكيل شعري مغاير يقوم على الإدهاش من خلال لغة تتطلع إلى خلق لغة جديدة من داخل اللغة وهي تتبنى مغادرة جماليات الأساليب المعتادة، لتحقق التحولات التي تمنح النص خاصية الفعل والزخم التأويليين وهما يتجهان ضمن مسار قرائي مغاير، وفي خصب يتنامى على ضفاف وأعماق النصوص.
((لنورس/ ملّ قيد الأفق فانطلقا/ وراح ينسج من أحداقه أفقا....المجموعة 7)).
((لنورس/ منح النعناع نكهته/ ووشوش الورد/ حتى أيقظ العبقا....المجموعة 7)).
((لنورس عاشق/ مازال يسكنه بيت/ تمرّغ في أحضانه نزقا.....المجموعة 8)).
الثاني: الإهداء الذي تصدر قصيدة (فنجانها) وجاء بصيغة تجسيدية أيضا (إلى عصام الديك)، وحين نحاول كشف العلاقة بين الإهداء ومتن القصيدة، نخمن أن هنالك حوارات قد دارت بين الشاعرين حول القصيدة الأولى (نورس)، فما تضمنت القصيدة من كلمات وجمل عمد الشاعر إلى حساسيتها، جعلت انزياحها يتغاصن بدلالاتها السيميائية، لتمنحنا إغواء جديدا في ثنائية قبل الإيهام/ بعد الإغواء، وهنا تكمن جمالية هذا التغاصن ((فنجانها، حكاية عن شاعر عشق الجمال ولم يبح، نسج الكناية واتشح، عن تونس والبحر قبل وجنتيها وانسرح، كيف استباح (الكسكسي) على فمي طعم البلح .....المجموعة32،33))
إن التحولات اللسانية والأسلوبية والصورية والإيقاعية والرمزية التي وظفها الشاعر عبر صياغات جدلية معرفية، وتكثيف شعري وبنائي متمرد في تشكيله البصري، حققت مراوغة ومغامرة في تجلي الأثر الانطباعي للقارئ العادي، والأثر التحليلي للدارس في الآن نفسه، فالنصان يمتلكان إشارات توريط عديدة تكمن خلف عبارات النص المنعرض، فعندما نعمل على  تحريك عجلة المخيلة في واقعها المتجذر ضمن توصيفات خارجة عن التقليدية للتراكيب الإيقاعية التي تفرض مناخا انسيابيا هادئا، والتراكيب الصورية التي نجد فيها من الغموض ما يمنحها الانزياح نحو وعيها الشعري، تتخلق لدينا ـ في تلك اللحظة ـ محمولات مشاكسة تقود إلى فضاء تدليلي يصعب ترسيم حدوده بعيدا عن الدلالة الكلية للنص:
((فأوقد الماء في كفيه منتشيا/ وسَرَّ أوجاعه للبحر/ واحترقا.....المجموعة 10)).
((كيف استباح (الكسكسي) / على فمي طعم البلح .....المجموعة 32)).
((فاحذر إذا شباكها/ عن ومضة السحر انفتح ....المجموعة 32)).
 ولو أردنا الوقوف عند كلمة (الماء) و(الكسكسي) و(السحر) لتجاوزنا البنية السطحية لهذه المفردات في معناها القاموسي إلى البنية العميقة في دلالاتها المنزاحة، وفي هذا المستوى من التحليل سنغادر دائرة التمظهر اللغوي القار ونكسر حدودها وننحاز إلى جوهر الشعر في كل تحولاته الدلالية. وبناء على كل ما تقدم فان اللحظات الجمالية في العتبات النصية تتجسد في ثلاثة مواضع لا يمكننا فصلها بسبب تداخلها الشديد، وهي بالتأكيد تمثل عناصر القيمة الجمالية في النص الشعري، وهي (الموضوع الجمالي والوعي الجمالي والعلاقة بينهما). ويمكننا ربط الموضوع الجمالي باللحظة الجمالية التي تتعلق بالمؤلف وهو يختار ما يسرنا عند إدراكه، ليمنحنا البهجة واللذة ونحن نتلقى العنوان كما هو معطى بكل الخواص الآسرة للحس والخيال. أما الوعي الجمالي فيرتبط بلحظة القارئ وطريقة الإثارة التي تحدث في الوعي فتجلب الانتباه، فقد لا يكون أكثر من موجة صغيرة Ripple  على سطح الخبرة، وقد يكون موجة عظيمة Great Wave  وتحدث توترا فيها وتعمقها. أما العلاقة بين الموضوع والوعي الجمالي فهي لحظة اندماج بينهما، إذ تصبح العناصر الحسية والشكلية للموضوع مندمجة مع رغبات ومشاعر المدرك، والنص في مثل هذه اللحظات يكون نتاج التفاعل المبدع بين الشاعر والمتلقي الذي يشحذ خياله لكي يمنح الحيوية والنشاط للمعطيات المنقولة إليه ([2]).
وفي ختام المقاربة بودي أن اذكر القارئ بأنني لن اكتمه سرا حين أقول: لقد أبهرتني هذه المجموعة الشعرية لتشابك مهيمنماتها الأسلوبية، مما جعلني أؤجل كثيرا منها إلى مقاربات قادمة، على أمل دراسة كل نتاج مشغل عبد المنعم الأمير الشعري، والتمتع باللحظات الجمالية التي أشرنا إليها.

([1])  بنية اللغة الشعرية، جان كوهين: 206.

([2])  ينظر: عناصر القيمة الجمالية، د. رمضان الصباغ، مجلة البيان،ع 333، أبريل 1998: 6-10.

تعليقات