في رواية
ابن من أنا؟
للأديب علي أفيلال
تقديم لابد منه
إن من دواعي ظهور
السرد الروائي هو عدد من العوامل المختلفة و المتنوعة التي استدعت هذا الفن الأدبي
الذي يستطيع استيعاب التغيرات الاجتماعية و الاقتصادية والسياسية....
وهي بشكلها الفني
و الجمالي تستطيع احتواء هذا الكم الهائل من الأحداث، تستطيع تتبع تفاصيل الواقع
المتشابك ونفسيات الشخصيات المتنوعة و المضطربة،وتنقلها من واقع الواقع إلى الواقع
المتخيل الذي يصبح هو مصدر الرواية.
ويعتمد السارد في
ذلك على مجموعة من التقنيات ومن الانزياحات اللغوية و البلاغية التي تساعد على
إيهام المتلقي بواقعية ما يسرد من أحداث،الشئ الذي يساعد على الرفع من مستوى
التلقي و التأويل،وتختلف مستويات التلقي و التأويل باختلاف مستويات المتلقين
وبتعدد قراءاتهم.
ولتحقيق هذا الإيهام
يحتاج السارد إلى اعتماد تقنية التسلسل المنطقي أثناء سرد الأحداث،حيث ينبغي عليه
أن تكون مفصليات الرواية مترابطة،انطلاقا من بداية الرواية فالذروة ثم النهاية وهي
الخاتمة التي تختتم بها الرواية،وفقا لمبدأ العلية و السببية،حيث إن الشخصيات تنمو
وتتطور بنمو وتطور الأحداث،الشئ الذي يعطي للقارئ إيهاما لتصديق حقيقة ما
يسرد،وهذا ما يمكن تسميته ببناء الرواية المتماسك،حيث لا يشعر القارئ بتقطعات و
اهتزازات تسئ للسرد الروائي،وتشعره بغياب الفكرة وشرود المعنى.
البناء الفني
للرواية
وفي رواية ابن من
أنا؟ للأديب علي أفيلال الصادرة عن مطبعة النجاح الجديدة،والمكونة من 149 صفحة
والتي تدور أحداثها في تسع وعشرين فصلا،تشكل
مجموع مشاهدها المختلفة عبر لوحاتها المتنوعة،حيث إن كل لوحة تصور قصة مستقلة
بذاتها تنتهي بلازمة تحيل القارئ إلى اللوحة التي تليها،وهكذا تستمر الرواية إلى
نهايتها،بطريقة سردها الكرونولوجي .
فالرواية في
مجموعها تدور أحداثها حول هذا السؤال العريض الذي عنون به السارد روايته "ابن
من أنا؟" محاولا البحث عن جواب شاف يريح البطل (يحي) من حرقة السؤال عن أصله
البيولوجي.
فشخصية يحي تتصف
بالرزانة و التحمل تنتقل من بعدها الشخصي إلى بعدها التشخيصي الذي يقدم دورا في
الرواية باعتبار (يحي) شخصية روائية يحركها السارد ليؤدي وظيفة يؤمن بها،فالسارد
يتتبع شخصية يحي البيولوجية و الثقافية و الاجتماعية،ويتتبع الشخصيات الثانوية
الممتدة التي ترافق شخصية يحي وتخدم رؤيته وتترابط مع همومه ومشاكله،الشئ الذي
يساعد على تحريك الأحداث ويزيد من تأزيمها،وفق منهجية متناسقة تشد اهتمام القارئ
وتدفعه إلى متابعة السرد الروائي.
ففصول الرواية
جميعها تترابط وتتواشج من حيث البناء الذي يخدم العنوان الذي تدور حوله جميع هذه
الفصول المتتابعة و المتسلسلة لتصل إلى ذروة الرواية ونهايتها حيث يأتي الحل.
(منى، الله استجاب
لك
منى ابنك هنا
لكن،أقادرة أنت على رؤيته دون صراخ أو عويل أو فقدان رزانة العقل؟
أحاول
ذلك....أحاول ذلك.
ذلك ما أريدك أن
تكوني عليه،إذن اغمضي عينيك،وكوني على يقين أنك لأن تفتحيها إلا ويحي على
صدرك)ص146
ففي الرواية نلاحظ
هذا النوع من البناء الفني الذي يعتمد فيه السارد طريقة السرد التقليدي المتنامي،
الذي يعتمد الوضوح و الربط بين أحداث الرواية، يعتمد زاوية الرؤية من خلف فنشعر من
خلال قراءتنا للمنجز الروائي(ابن من أنا؟) أن السارد يتتبع تفاصيل شخصياته وما
تعانيه من معاناة فردية وجماعية بدقة متناهية،يسرد معاناتها وكأنه يملك القدرة على
الوصول إلى أفكارها ومشاعرها،يسرد أحداثها في الجهة التي يميل إليها.
لقد استطاع السارد
الغوص عميقا في نفسية (يحي) الشخصية المحورية الذي يعاني من مرارة فقدان الانتماء
البيولوجي،فهو ابن أمه وأخته في نفس الآن.
(قالت إني مجرد
خليط من امرأة ورجل وأن هذا الرجل مثلي قبحا ودناءة،كونه اغتصب ابنته فجئت أنا
الشجرة المحرمة من هذا الاغتصاب) ص135
فالسارد حافظ في
الرواية على السرد التتابعي للأحداث،استطاع تتبع شخصية (يحي) المضطربة في أبعادها
الجسمية و النفسية و الاجتماعية،استطاع ربط الأحداث بزمنها الطبيعي وأمكنتها
المختلفة التي تسير وفق الأحداث،لقد استطاع السارد اللعب على سميائية الأهواء حيث
يحي يشعر بأمه منى،والأم تشعر به دون أن يتلاقيا،بالرغم من وجود المعيق وهو
الافتراق و الابتعاد عن حضن الأم.
وعند تتبع نفسية
شخصية يحي وأمه منى و الأبطال المساعدة في تأثيث فضاء الرواية،نشعر وكأنها تتماهى
وتتداخل مع الأمكنة و الأزمنة،حيث الزمن و المكان و الشخصيات شئ واحد،فالفضاء
الزمكاني هو الفضاء الذي تعيش فيه الشخصيات ،وهو الذي يؤسس عالم الرواية الخاص بها،بل
هما موضوع الرواية إن صح التعبير حيث لا تستقيم أية رواية بدونهما.
ويكون للغة دور
كبير في الجمع بين التفضية الزمكانية و الشخصيات بطبيعتها الدينامية و المتحركة
التي تتبع الأحداث بلعبة الوصف المتنامي الذي يتتبع فسيفساء ومفردات الواقع
ونفسيات من يعيش معاناة هذا الواقع،و كل ما/من يؤثث فضاء هذا الواقع من شخصيات و
شخوص،حيث السارد يدخل في أعماقها وكأنها شخوص مؤنسنة تساهم في أداء أدوارها بجانب
الشخصيات الرئيسية.
(منى أنا معك...أسجل
آثار خطاك خطوة خطوة....) ص67
لقد اعتمد السارد
في تتبع هذه الأحداث المتشابكة على لغة السرد الروائي التي هي مادة الرواية،وهي
التي تستطيع إعادة إنتاج الواقع عبر مستويات اللغة المتفاوتة و المختلفة
،فبمقدورها اختزال الواقع و التعبير عن مكنونات الشخصيات النفسية وتدفعها إلى
تعرية نفسها والبوح عما في داخلها وما يعتصرها من ألم وما تصبو إليه من أمل.
إنها لغة تتصف
بالدينامية و الحركية،فمرة تنقلنا عبر أزمنتها المختلفة من الحاضر إلى الماضي،
ومرات ترمينا بسلاستها إلى أحضان المستقبل لكشف المجهول،وفضح المستور،لمعرفة حقيقة
ابن من هذا البطل الذي يسمى يحي؟؟؟
وتفاوت الأحداث
وتأزمها يختلف من مشهد لآخر حسب ذروة اشتداد المشهد وتوتره ،وهذه التقنية تساعد
على جلب اهتمام المتلقي وتدخله في هموم شخصيات الرواية،حيث تدخل معها في تجاذب حاد
إما بقبول هذه الأحداث و التعاطف مع أبطالها،أو التصادم معها ورفض مواقفها.
وهكذا فالرواية
بهذا المعنى تنهض على توالي الأحداث بشكل منتظم ابتداء من طرح الحدث المحوري
ومرورا بتشابك الأحداث الفرعية وتعقدها وانتهاء بالحل المعتمد على الأسباب و
النتائج
كما أن الرواية
بوضوح أحداثها وبطريقتها التقليدية في السرد تجعل القارئ قادرا على مسك خيوطها
واستخلاص رؤيتها التي هي رؤية السارد،كما أنها تدفع القارئ نحو متابعة الأحداث
وضبط الحبكة الرئيسية التي تدور حولها الرواية،والقبض على أبعاد الرواية السطحية و
العميقة.
19/02/12
محمد يوب

تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لحضورك واهتمامك