سميولوجية القناع
في
"حفلة
تنكرية"
للأديب عامر هاشم
الصفار
عند قراءة المجموعة القصصية "حفلة
تنكرية" للقاص و الأديب عامر هاشم الصفار الصادرة عن دار أقلام،نشعر به و كأنه يكتب
كتابا في السوسيولوجيا ،يتعمق جيدا في واقع الإنسان، في حياته الخاصة بسكونها و
بتغيراتها،ينظر إليها من زاوية تربوية و أخرى اجتماعية وثالثة سياسية و اقتصادية
وهذا دليل على عمق ثقافة الكاتب ، إنه ذاك الكاتب المتمرس، إنه يتربص الحركات و
السكنات ويتابع بامتياز ما يجري في الواقع وعلى أرض الواقع، منطلقا من الواقع
ليعود إلى هذا الواقع.
تنطلق التجربة القصصية للأديب عامر هاشم
الصفار من المعيش اليومي ومن الواقع
الاجتماعي في أدق تفاصيله لتتبع مفرداته ونقلها من واقعها الواقعي إلى واقعها
المتخيل،محاولا صياغة هذا الواقع أدبا مراعيا
في ذلك البناء الفني الذي يستوعب هذا
الواقع و التيمات التي يعالجها و الرؤية إلى العالم التي ينشدها.
ومن خلال قراءتنا للمجموعة
القصصية"حفلة تنكرية"نلاحظ بأن القاص لم يقف موقف الحياد من واقعه
المتردي،ويظهر ذلك من خلال رصده لهذا الواقع القاتم الذي نقله إلى فضاء المجموعة
القصصية بفنية وجمالية ميزته عن خطابات أخرى سياسية واجتماعية بأن أضفى عليها ما
سماه جاكبسون بأدبية العمل الأدبي.
بنية
العنوان وشعرية الغلاف
يعتبر العنوان إحدى العتبات الأساسية التي
تساعد المتلقي للولوج إلى عمق النص باعتباره نصا موازيا لمحتوى النصوص
القصصية،فالعنوان هو الذي يساعدنا على القبض على دلالات القصص المشكلة للمجموعة
القصصية، فالمقطع الصوتي "حفلة تنكرية"مقطع صامت و صائت في نفس الوقت، وهو
مركب وصفي يتكون من اسم وصفة،أي من الخبر المضاف إلى صفته التي تضيئه،وقد حذف
المبتدأ من أجل تسليط الضوء على الحفلة باعتبارها هي بيت القصيد ومقصدية
القاص،منها سينقل للمتلقين ما يجري في هذه الحفلة من مآس.
وسميائية العنوان توازي سميائية اللوحة
التي اعتمدها القاص و التي تكشف طبيعة المسرح الذي جرت فيه أحداث هذه الحفلة
التنكرية،وهي المدينة التي تعج بزحمتها و تطاول في بنيانها،ولا يمكن للإنسان
التغلغل فيها دون لبس القناع من أجل التعرف عليها عن قرب وكشف خباياها المضمرة و
المستورة في نفوس قاطنيها.
والقاص لا يريد الكشف عن وجه السارد بل
يريد ارتداء القناع من أجل التمعن جيدا في سحنات الشخصيات التي تؤثث فضاء
قصصه،يريد كشف حقيقتها و التعبير عما يروج في ذهنها من خبث ومكر اجتماعي،معتمدا في
ذلك على تقنية التبئير وزاوية الرؤية من الخلف، من أجل التغلغل عميقا في نفسية
شخصياته،كما أنه يتتبع شخصياته في عتمة الليل، يراقب تحركاتها ويحصي أنفاسها،محاولا
التعمق في ما يدور في خلدها،كاشفا الغطاء عن مجموعة من السلوكيات الخاطئة التي
تسربت إلى مجتمعاتنا،سلوكيات ينبغي تصحيحها بل القضاء عليها من أجل خلق مجتمع صالح
مبني على القيم و الأخلاق الفاضلة.
شعرية
الواقع الاجتماعي
وتطرح علينا هذه المجموعة القصصية علاقة
الإبداع القصصي بالمجتمع،وما هي التغيرات التي تعكسها القصة باعتبارها الجنس
الوحيد الذي يعبر عن قضايا اجتماعية معقدة بأقل الكلمات وبأوضح التعابير،مخلفا
أثرا فنيا وجماليا في نفسية المتلقي،كما أن القصة عندما تنقل الواقع فإنها لا
تنقله مباشرة وإنما تعيد تشكيله برؤية أخرى تجمع بين المتخيل الواقعي الممزوج
بالمتخيل الفني و الجمالي.
و أنت تقرأ هذه القصص تشعر و كأن الكاتب يحمل على كتفيه آلة
تصوير أوكاميرا فيديو ينقل فسيفساء الواقع بشكل حركي ، يتابعه عن قرب لتأسيس بناء
عميق الدلالة بناء قويم ، قائم على أسس صلبة، وهذه الحركية تظهر من خلال الحوار
المتعدد الأصوات و النبرات في القصص كما نجد في " اعتراض"(يعترض الحبر
على ما خط به القلم من عبارات تدعو الناس لطاعة حاكم المدينة الجائر)ص58 ، حيث
يعترض الحبر عما يريد القلم خطه على صفحة الكتاب،وكأن الحبر إنسان يحس ظلم وطغيان
الحاكم الظالم،إنه يرفض تزوير التاريخ،لأن التاريخ هو المنخل الذي ينخل الأحداث
ويبين صحيحها من زائفها،إن الحبر يرفض هذه الرؤية التي تساهم في بلورة فكر ظلامي
قائم على الظلم و القهر، و الكاتب يهدف من خلال هذه القصة رفض هذا النوع من الفكر
الذي يقصي الآخر، فكر يحجر على الأفكار النيرة الآملة في المستقبل الجميل،الأفكار
المتفائلة التي تفتح باب الحوار على مصراعيه.
فالمجموعة القصصية "حفلة تنكرية"
من حيث الموضوع هي عبارة عن إعادة بناء للتاريخ،وكتابة واقع مرير عانى منه القاص
واختمر في ذهنه ثم نقله أدبا،إن القاص يؤرخ لفئة اجتماعية مهمشة تعاني شظف العيش،وهو
من خلال هذه المجموعة القصصية يعيد تشكيل الواقع انطلاقا من رؤية متناقضة ومتصارعة
تساعد على تتبع فسيفساء الواقع في حركيته وديناميته(ينظر الموظف إلى ورقة راتبه
الشهري....فيبدأ يتعلم علم الحساب متأخرا) حفلة تنكرية ص55
فالقاص يكشف لنا هزالة الرواتب في كثير من
الدول العربية،رواتب لا تفي بسد حاجيات الموظفين ولا تسد رمق أبنائهم...فالقصة هنا
تتتبع نفسية القاص من جهة،ونفسية المتلقي من جهة أخرى حيث إنه يطلع عن قرب عن واقع
حال هذه الفئة المقهورة من فئات المجتمع.
إن القارئ
للمجموعة القصصية"حفلة تنكرية" يشعر بأنها مشكلة من مجموعة من المنجزات
القصصية التي تتنوع بين القصيرة و القصيرة جدا،فهي قصص تتصف بالاختصار الشكلي
لكنها غنية من حيث المحتوى و البعد الدلالي،تشعر القارئ بومضة مضيئة وخاطفة،تستفزه
وتثير فضوله بطريقتها الملغزة و المشاكسة(تتعب قلبه الذكريات...يضع قلمه على
الطاولة وينام للأبد...) ص55 ،فقصة تعب تذكي في نفس المتلقي مجموعة من الذكريات
التي يتقاسمها مع القاص إلى درجة أنهما لا يستطيعان تحمل ما يكابدانه من معاناة من
شدتها وثقلها.
كما أن الزمن في
المجموعة القصصية نشعر به وكأنه حاضر بيننا نلمسه لأنه يجمع بين فضائين،فضاء زمني
وآخر مكاني،وبين الفضائين نجد نفسية القاص التي تساهم في توحيد هذين الفضائين من
خلال ما يسميه غريماس بالزمن النفسي،الذي يعبر عن استهواء القاص لمهنة الطب حيث
تبدو أغلب القصص محملة بحمولة ودلالة ذهنية،تعبر عن ضرورة الإخلاص لهذه المهنة التي
تساعد على استمرارية الحياة و تحافظ على النفوس و الأجساد من الأسقام التي تنتشر
في المجتمعات سواء منها الأسقام الجسدية أو النفسية.
كما أن سميائية
الأهواء تظهر من خلال تذكره لأمه التي تحضر في قصصه ويتذكرها بمرارة وألم(لم يكن
قراره هو عندما ترك بغداد في ليلة حالكة...كانت يدا أمه أقوى منه،فجذبته من ياقة
قميصه وهو يبكي...) قصة شقاء من نفس المجموعة ص 32 .
ففي عملية السرد القصصي هذا نلاحظ بأن القاص يعتمد تقنية الاسترجاع
لكي يعبر عما حدث من وقائع وأحداث في الزمن الماضي محاولا استرجاعها و التعبير
عنها في زمن الحاضر وهو زمن القص أو زمن الكتابة،حيث أفعال المضارعة حاضرة بامتياز
لكي تعطي للمجموعة القصصية زخمها وقوتها،فالزمن بهذا المعنى أزمنة متعددة تتعدد
بتعدد نفسيات الشخصيات التي تسرد قصصها.
ومن خلال قراءتنا للمجموعة القصصية وتفكيك تمفصلاتها القريبة و
البعيدة نشعر بأن القاص عامر هاشم الصفار يكشف عن هذه الشخصيات بل يتحدث بلسانها
موجها إياها في الاتجاه الذي يريد ووفق الرؤية إلى العالم التي يؤمن بها،معتمدا في
ذلك على ضمير الغائب الذي يتيح له حرية التصرف و التعبير بصراحة عما رآه في هذه
الحفلة التنكرية التي تجري أحداثها على مسرح الحياة.
سميائية القناع
إن السارد يتخفى وراء القناع من أجل تمرير خطاب أيديولوجي مشحون برؤية
نقدية جادة إلى العالم،من خلال هذه المجموعة القصصية التي تدخل في إطار التخييل
الذاتي الذي يجمع بين السرد القصصي و السرد السيرذاتي،يريد من خلال هذه القصص
تقديم العالم المتعفن بين أيدي القراء محاولا فضح هذه المساوئ وتقديم البديل عن
هذا العالم المتأزم و الملئ بالمتناقضات.
كما أن المجموعة القصصية بالرغم من لغتها البسيطة فإنها تدخل في إطار
الأسلوب السهل الممتنع،لغة ذات حمولة عميقة فهي حمالة أوجه تغير أقنعتها كلما دعت
الضرورة إلى ذلك مستفزة القارئ من أجل إثارة فضوله لمعرفة من يحمل هذا القناع وما
يجري في هذه الحفلة التنكرية(يعاند الكتاب فلا يفتح أوراقه بعد أن لمسه جاهل لا
يعرف القراءة رغم مكتبة بيته العامرة)حفلة تنكرية ص57، صحيح إن قصة كتاب تبدو
بسيطة في ألفاظها لكنها عميقة في دلالتها،تضمر معاني متعددة تتعدد بتعدد القراءات،كل
قارئ يقرؤها في ضوء ما يحمله من حمولة فكرية وأيديولوجية.
محمد يوب

تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لحضورك واهتمامك