من علائم الشِّعريّة


من علائم الشِّعريّة في ” ليس للربيع علامةٌ ” لكمال العيادي (1)
لعلّ من أهم العلائم الشعرية التي تبده القارئ المتأمل للديوان الشعري الأول للشاعر القاص المبدع كمال العيادي ” ليس للربيع علامة ” هذا العنوان الذي يتمثل في هذه العبارة المفتاحية على المستوى الرؤيوي لهذه المجموعة، والتي قد رمى الشاعر من خلالها إلى ” زلزلة ” وعي القارئ الرتيب ببعض المدركات الكونيّة، وإعادة إنتاجه على نحو ” إدراكيّ ” مغاير، وذلك من خلال تصديره العبارة بـ” ليس ” بما تحتمله في طياتها من قيمة النفي الباتر الجازم الذي ينصبّ على اسمها المنكّر المنوّن ” علامة ” بصيغة المفرد لإفادة النفي المطلق لوجود أي لون، خفيٍّ أو جليٍّ، من علامات ” الربيع ” هذا الذي تقدّم – في التركيب – على متعلّقه الدلالي وجاء متوسطا بين العامل ومعموله ” ليس … علامةٌ ” للدلالة على أن الربيع هو المخصوص بنفي العلامات عنه، مع تحلّيه ” بأل ” التي تفيد اكتمال تحقق ” جنسيّة ” الربيع ” فيه، و ” عهديّته ” الروحية والسياقيّة في آنٍ، إذ العبارة منتزعةٌ من سياقها المقاميّ والدلالي لإحدى قصائد المجموعة وهي قصيدة ” تلك المنامة “.

وهذا يعني فيما يعني على المستوى التفسيري أن الشاعر قد قصد إلى إشاعة ” طُقُوسِيَّةِ الربيع ” على المستوى المجازيّ التخييليّ؛ عن طريق نفي علائمه التي يمكن أن يكون لها ارتباط وجودي أو ذهنيّ بالربيع فينوجد بانوجادها، أو ينتفي بانتفائها، ومن ثم فإن نفي العلائم نفيٌ لكل ما يمكن أن يحدّ الربيع في أُطُرِه، أو يحبسه في إسارِه، كما يؤكّد في الوقت ذاته سيادة هذه الروح ” الربيعية ” وغَلبتها كل الفصول، وذلك بوصفها ” حالةً ” وجدانيةً ذوقية إدراكيةً في المقام الأول؛ وإذا كان شاعرنا قد رمى – فيما رمى – إلى ” خلخلة ” ماهيّة الربيع الزمنيّة والوجودية ليتّسع إهابها فيشتمل على معانٍ أبقى وأعمق على المستوى النفسيّ والرؤيويّ؛ فإنا نقول: وإن للشعر الحق، والإبداع الأصيل في هذه المجموعة علائمَ وعلائمَ، يعرفها بسيماها المريدون، ويتلمّسها القاصدون، وبضوئها هم يهتدون.

ولعلّ من أهم هذه العلائم الفنية اللافتة في هذه الإضمامة الشعرية ما يلحظه القارئ الفطن من تآزرٍ إبداعي حميم، يصل إلى حدّ التماهي بين تقنيّات الشعر والسرد وآلياتهما، فالشاعر – في كثير من المواضع – يُسردنُ الشعرَ، أو يُشعرنُ السردَ، أي أنه يشعرُ حين يسرد، ويسردُ حين يشعرُ، وهذا راجع – فيما نرى – إلى امتزاج الملكتين وتزاوجهما في نفسه وأصالتهما في ذاته الفنية، من ناحية، ولكون القصة القصيرة بما تحتمله في طِيّاتها من وعي عميق بالتفرد الإنسانيّ من أقرب الفنون القوليّة إلى الشعر الغنائيّ بذاتيته وفردانيته، من ناحية أخرى، ودلائل هذا الملمح في هذا الديوان كثيرة متظاهرة، تأخذ علينا كل طريق، وتطل علينا من غير وجهٍ، ولعل من أبرزها وأجلاها دلالة على ذلك نصوصه: ” مرثية القمر الأخير ” و ” هذا الثلج غريمي ” و ” يا وحدي المرّ ” و ” صوت نشيجِها الذي يسوطني من بعيدٍ “؛ وإنْ كانت عامة النصوص العيادية في هذا الملمح سواءً .

وهذا الملمح، مع غيره من الملامح الأخر، هو ما يجعل تجربة العيادي الشعرية، شأنها في ذلك شأن التجارب النصّيّة الحديثة، عصيّةً أبيّةً في ذاتها على التجنيس المدرسيّ الصارم، وهذا هو ما ألمح إليه في بعض إيماءاته الشعرية، وإفضاءاته النفسية في قصيدته ” هذا الثلج غريمي ” حيث يقول:

” أخطّ بيتين من الشعرِ..
سمكةً لا تسبح في جداول القافية..
للسمكة زعانفُ وأربع حركاتٍ..
أقايض سمكتي بحوتٍ موقّعٍ..
لا تسرع.
هذا خببٌ.
لا تتمهّل. هذا لهبٌ..” ص 29

وهذا الشاهد يكتسب أهميته في سياق تجربته من حيث هو كاشفٌ – من بعض الوجوه – عن مذهبية الشاعر الفنية التي تتبلور في ” الانطلاق ” من إسار المذهبية، والتحرر من ” جداول قوافي ” الشعر الموروثة، وقوالبه النغميّة الرتيبة، واختياره الذاتي لأن تكون ” سمكته ” الإبداعية حرة طليقةً بعيدًا عن عوالم ذلك ” الحوت ” التراثي الإيقاعي الذي ربما يهتم كثيرا بإيقاع ” الخبب ” وما يرمز إليه في هذا السياق من البحور الخليلية أكثر من اهتمامه ببحور ” اللهب ” وما ترمي إليه من ” رمزيّة ” التوهُّج العاطفيّ والرؤيوي في تجربته الشعرية.

وكذلك يعد الخطاب الشعري العيادي، في بعض مجاليه، مظهرا من مظاهر العلاقة الجدليّة بين الذات والآخر، على المستويين: الفردي والجمعيّ، وتعبيرا صارخًا عن أزمة ” الاغتراب والحنين” بكافة معانيهما وتداعياتهما، على المستويات كافّةً، وقد تبلورت على نحو مكثف في الذات الشاعرة، بكل ما تستشعره من غربةٍ محدقة حارقةٍ داخل الوطن أو خارجَه، حضاريا وقِيَميًّا ووجوديا وثقافيا، وهما الأمران اللذان يتنازعان نفسية المبدع ويتجاذبانها أشد التجاذب وأقساه بين قطبي ” الاغتراب والحنين ” على نحو تتداعى له روحه شجنا وشدوا، وألما وأملا.

وهذان الملمحان، على المستوى الرؤيويّ، هما ما يلقيان على متلقي النص العيادي تبعة فنية ثقيلةً؛ تجعله في سبيل تلقيه أشبه بمَنْ يسير في دغلٍ كثيفٍ، مشتجر الأغصان، يتلبّس فيه الشعري بالسرديّ، والفردي بالجمعيّ، والذاتيّ بالغيريّ، والواقعي بالمتخيّل الأسطوري، أو الموروث التاريخي بالروحيّ العقديّ، أو الشعبيّ الأمميّ، وتكثر فيه الإحالات والإسقاطات، وتبثّ فيه الرموز والإشارات، والاسترجاعات، وأحاديث النفس، وهمهمات الوجدان، وألوان الاستدعاءات والترجيع النغمي، والتكرار النسقيّ، وإذن فلا بد أن يأخذ قارئ مثل هذه النصوص أقصى درجات الحيطة والحذر الفنية، في معرض استنطاق أبعاد الرؤية العيادية، التي ربما تبدو، لأول وهلة، بسيطةً في طبيعة طرحها، بل ومباشرة أحيانا، ولكنها عند التأمل تتجلّى ثريةً خصبةً بما تجنه في طواياها، وتحتمله في تضاعيفها وثناياها، من رؤى تأويلية مضمرة، ورموز دلالية، بعيدة الغور، شديدة العمق.

وثمة ملمحٌ آخر يتفرّع عن الملمحين السابقين، على المستوى المعجمي الرؤيوي، ويتمثل في اتكاء الشاعر كثيرا على معطيات التراث، وبخاصة في مكوّناته الدينية، على نحو يجعل من هذا ” الاتكاء ” ضربًا من ضروب ” الاحتماء والعياذ ” بما تمثله هذه المفردات من المقومات الروحية ” العاصمة ” من ذوبان الهويّة، أو انمحاء مياسمها المائزة لخصوصيتها الحضارية، على نحو ما نرى في هذه التراكيب الواردة في قصيدته ” يا وحدي المرّ ” :

أنا خاتم رسائل حبك…، آيتي الليل…، أتحفظ قرآن النجوم والكواكبِ كلها…، هنّ كتابي اليمين.. الواضعُ عني حرجي عند يقين اليقين… النّارُ السلامُ أنا… ، أأتوب عن تخليص سبائك النور من النار؟…، هنّ حروفي وطلاسمي…، أنا المسكون بمصابي والحنين… ، منذورٌ نبضي للأنين… ، النارُ والنورُ في مدافئهنّ…، وقدري أن أكون رسولهنّ.. بنارهنّ أحترق ولا أشكو لهنّ… أنا النُّون، الصخبُ والسكونُ…، أتهجّى فيهنّ الحرف الحرامْ.. أغمسه في دمي المُدَامْ…، أنا قلبُك وهنّ كتابي اليمين، هنّ الواضعاتُ عنّي حرجي عند يقين اليقين، ألفٌ..، كافٌ..، عينٌ وميم، صادٌ..، وظاءٌ..، دالٌ وسينٌ ” الصفحات 49 – 56

وواضح من خلال هذه التراكيب الترانيم المنبثّة في تضاعيف هذه القصيدة الرائعة التي هي أشبه شيء بترنيمة صوفية، يرتلها عاشق واله مستهامٌ في حالةِ وجد صوفي عليٍّ، أو في مقام جذبٍ عرفاني فريدٍ، مدى تظاهر هذه التراكيب وتضافرها للتعبير عن هذا القطب المعجمي المحوري الذي يتكئ عليه الشاعر في غير موضع من تجربته الشعرية ” محتميًا ” بتداعياتها الروحية الحميمة” لاستنبات ” حالة من السكينة المهدهدة للذات في خضم الحياة المعاصرة الموارة التي تتقاذفها باغتراباتها المستلِبة وتشظياتها الماحقة.

وكذلك نرى في مواضع أخر آلية استلهامية لمعطيات التراث تتمثل في استرفاده لبعض الشخصيات التراثية واستنطاق مقولاتها وملابساتها على المستوى الإيحائي والرمزيّ، متماهيًا مع هذه الشخصيات في بعض ” تجلّياتها ” مستولدًا من خلال هذه الآلية دلالته الذاتية، وصوره الخاصة في ظلال سياقاته الشعرية، على نحو ما يصنع مثلا مع ” عنبِ الخليل ” الفراهيدي، إذ يقول:

” فاسقني
من خجل الرمّان..
ومن عنب الخليل..
لعلني..
أخاتل صحوي لحظةً
وأرى
ما أشتهي.. “. ص 46

وكذلك يصنع مع ” الوليد بن يزيد ” الأمير الأمويّ الذي عُرف بمعاقرته الخمر، وعشقه إياها حيث يستدعيه، وجرارُ خمره معه، فيقول:

” ولكنني كعادتي
أنتهي مثخنا بالجراح
أسيرا لديها
أشرب جِرَارَ الوليد
أسبح مثله في النبيذ المعتق ” ص 28

وكما صنع الشاعر مع ” عنب الخليل ” و ” جرار الوليد ” نراه يصنع متماهيا، ضربا آخر من التماهي، مع ” الحالة الروحية الطلبيّة ” لنبي الله موسى عليه السلام عبر تلك الصيغ الطلبية المتتابعة: ” رب اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي … ” فيقول العيادي في قصيدة” صوت نشيجها يسوطني من بعيد:

” يا ثلجي الأبيض والورديَّ
كن بيني وبين نشيجها
زوّر أختام العمر وما مرّ..
أطلق لساني..
ثبت بياني..
سوّ لثغتي..
وعدّل لكنتي.. ” ص 58

وكذلك نراه يستدعي بعض الطقوس وأصداء النصوص في خمريته العصرية ” إلى عاشق البيرة البيضاء ” كما في اقتباسه الصورة الشعرية ” النُّواسيّة ” الرائعة التي يقرر فيها أبو نواس على نحو متفرّد أنه خمرته ألطف من أن تمزج بالماء لكثافة عنصره، وإنما هي جديرة بأن تمزج بالنور المحض حتى يتولد من مزاجهما الأنوار والأضواء، وذلك قوله في همزيته الخمرية:

فلو مزجتَ بها نورًا لمازجها
حتى تولَّدَ أنوارٌ وأضواءُ.

وهذا المعنى نفسه هو الذي يستلهمه العيادي على نحو فطِنٍ حيث يقول:

فارفعها إذن
سبائك ضوءٍ محلّلٍ في الضوءِ
وقل
إن أوجعوك بالجدال
وشطوا في السؤال:
إنا لله طبعا
ولكننا الآن
إليها ” ص 37

وليُلحظ، في هذا السياق، أن الشاعر لا يستدعي هذه المفردات أو التراكيب أو الشخوص بصورة تُقصَد لذاتها، وإنما هو يستدعيها لما لابسها، وحلّق في فضاءاتها، من ” أحوالٍ ومقاماتٍ ” – على حد تعبير المتصوّفة – فهو مثلا ليس معنيّا بأبي نواس وبخمره من حيث هي خمر، أو بالوليد شخصًا وجِرَارًا، وإنما هو معنيّ في هذا الاستدعاء باقتباس ” الحالة الوجدانية ” لأبي نواس عاشقًا متفرّدًا للخمر، مقدّسًا لها، قاطعًا بنورانيتها، فلا يليق بها، حسب تصوّره، أن تُمزج إلا بما يلائم جنسها من النور، وهي ” الحالة الوجدانية ” ذاتها التي ” تلبّستْ نفس الوليد بن يزيد حتى ألهته عن كل شيء، وصرفته عن كل مقدس، حتى الكعبة والحجيج وقد ولّي أمرهم في خلافة هشام بن عبد الملك، فإذا هو يولّي غيره ليفرغ لمحبوبته المثلى، وهذا، في ظني، من أنماط الاستدعاء والتوظيف الناجحين لعناصر التراث، على المستوى الفني، إذ يعيد الشاعر في علاقته بهذه العناصر تخليقها، وإنشاءَها على عينه، في سياقها الجديد خلقا آخر، له بعض سيماه القديم، وفيه نفخة روح المبدع الجديد، الذي تتشكّل الصورة الوليدة بملامحه، وتنطق ببيانه.

وغير خفيّ أن هذه الشواهد، وغيرها، من تجليات اتكاء الذات الشاعرة على تراثها، واحتمائها به، واسترفادها إياه في تشكيل ملامح تجربتها الشعرية إنما هي آية بيّنة على تناغم محاور الرؤية ومصادر الاستلهام، وانصهار عناصرها القديمة والحادثة، الأصيلة والطارئة في مقام استنطاق طوايا الذات، والتعبير عن كوامن الوجدان، وذلك من خلال ” انفتاحها ” وتصالحها مع العديد من ” المرجعيّات الكونية والروحية ” التي تمنح هذه الذات خصويتها، ومياسم هويّتها.

تعليقات