د.جميل حمداوي
إهداء إلى فاطمة بن محمود
تــوطئـــة:
تعد القصة القصيرة جدا جنسا أدبيا جديدا أو فنا مستحدثا في الحقل الثقافي العربي؛ نظرا لجذوره في الموروث السردي العربي القديم. وعلى الرغم من ظهوره في الوطن العربي إبان السبعينيات من القرن العشرين ، ولاسيما في العراق وسوريا، وازدهاره في المغرب منذ التسعينيات وسنوات الألفية الثالثة إبداعا وتنظيرا ونقدا وتوثيقا وأرشفة، فمازال هذا الجنس الأدبي يطرح قضايا مهمة، وإشكاليات كثيرة، وعوائق عدة، ويفرز أسئلة عويصة على مستوى التجنيس، والكتابة، والنقد، والاعتراف، والمواكبة، والدعم.
هذا، وقد انتعش فن القصة القصيرة جدا في السنوات الأخيرة من الألفية الثالثة ، ولاسيما في الصحف الورقية المطبوعة (المجلات والجرائد)، والمواقع الرقمية والإلكترونية، كما انتعش هذا الفن الأدبي الجديد إعلاميا ، وذلك من خلال ماتم تنظيمه من ملتقيات وندوات وموائد ومهرجانات وطنية وعربية ودولية.إذاً ماهي قضايا القصة القصيرة جدا إن موضوعا وإن شكلا؟ وماهي مشاكلها العويصة بنية ودلالة وتركيبا ومؤسسة ؟ وماهي عوائقها الذاتية والموضوعية والفنية؟ وماهي مراحلها التاريخية غربا وشرقا؟ وماهي مميزاتها وخصوصياتها على مستوى الكتابة والنشر والتقبل ؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول رصدها في هذه الورقة التي بين أيديكم .
¯ هل القصة القصيرة جدا جنس أدبي جديد؟
من المعروف أن الجنس الأدبي هو مؤسسة ثابتة بقوانينها، ومكوناتها النظرية والتطبيقية، حيث يتعارف عليها الناس، إلى أن يصبح الجنس قاعدة معيارية في تعرف النصوص والخطابات والأشكال ، والتمييز بينها تجنيسا وتنويعا وتنميطا. ويتحدد الجنس الأدبي بوجود قواسم مشتركة أو مختلفة بين مجموعة من النصوص، باعتبارها بنيات ثابتة متكررة ومتواترة من جهة، أو بنيات متغيرة ومتحولة من جهة أخرى. وهذا ما يجعل تلك النصوص والخطابات تصنف داخل صيغة قولية أو جنس أو نوع أو نمط أدبي معين. لكن عناصر الاختلاف الثانوية لا تؤثر بشكل من الأشكال على الجنس الأدبي؛ لأن المهم هو ما يتضمنه من عناصر أساسية قارة وثابتة، وكلما انتهك جنس أدبي ، ظهر على إثره جنس أدبي آخر توالدا وتناسلا وانبثاقا. وثمة مجموعة من القوانين التي ينبغي احترامها في عملية التجنيس، والتصنيف، والتنميط، وتقسيم النصوص الأدبية ، ومن بين هذه القوانين المعيارية، نذكر: قانون التردد، وقانون التكرار، وقانون العدد، وقانون المماثلة، وقانون الاختلاف، وقانون الأهمية، وقانون التواتر، وقانون القيمة المهيمنة، وقانون الثبات، وقانون التطور، وقانون التراكم، وقانون أفق الانتظار، وقانون التكامل، وقانون التمثيل، وقانون المشابهة، وقانون التوصيف، وقانون التقسيم، وقانون التصنيف، وقانون التنميط، وقانون التنظيم، وقانون المأسسة، وقانون التسنين، وقانون التفاعل، وقانون التحول، وقانون الجمال، وقانون التغير، وقانون الوساطة، وقانون الأفضلية، وقانون التأويل، وقانون الممانعة...
حينما نريد الحديث عن جنس أدبي سواء أكان كتابيا أم شفويا، فلابد من مراعاة مجموعة من القوانين، كقانون العدد الذي يستوجب أن يكون هناك مجموعة كبيرة من النصوص الأدبية.وبعد ذلك، نلتجئ إلى قانون التواتر أو التردد لمعرفة العناصر المتواترة والمتكررة في هذه النصوص جميعها ، وعزل العناصر التي قد يتم فيها الاختلاف. وتصبح العناصر المتواترة عناصر رئيسة وأساسية. وبالتالي، ننتقل إلى قانون الأهمية والملاءمة للتركيز على العناصر المهمة والملائمة لنص أدبي معين، بإبعاد العناصر أقل أهمية. كما نهتم بقانون الثبات الذي يستلزم وجود عناصر ثابتة وقارة في الجنس الأدبي وغير متغيرة أو متحولة. زد على ذلك، ننتقل إلى قانون المشابهة، ففي ضوئه نحلل النصوص الأدبية، ونقومها إيجابا وسلبا، وذلك انطلاقا من النصوص المتشابهة فيما بينها. أما قانون الانتهاك والتحول والتغير، فيعني أن كل جنس أدبي يتطور ويتحول إلى جنس أدبي آخر حسب انتهاك هذا الجنس وتدميره وتقويضه وانتهاكه فنيا وجماليا. أي : بتخييب أفق انتظار القارىء. ومن هنا، يمكن الحديث عن أجناس أدبية كلاسيكية، وأجناس أدبية حداثية، وأجناس مابعد حداثية، وأجناس تأصيلية. ونصل إلى خانة التصنيف، والتجنيس، وتقسيم الجنس الأدبي إلى أنواع وأنماط فرعية. ويمكن كذلك دراسة الأجناس والأنواع والأنماط والصيغ الأدبية استقراء واستنباطا، واستدلالا واستكشافا.
وعلى وجه العموم، هناك طريقتان في التعامل مع الجنس الأدبي منهجية ومقاربة ودراسة، فثمة أولا طريقة تجنيسية داخلية تنطلق من المكونات البنيوية النصية المحايثة ، كما نجد ذلك عند البنيويين والسيميائيين والبلاغيين والأسلوبيين ، وطريقة تجنيسية خارجية معطاة مسبقا ، وهي قائمة على الإسقاط القبلي المبني على التوقع الافتراضي، وأفق الانتظار، والتأويل المرجعي أو الذاتي أو التداولي.
وإذا أخذنا القصة القصيرة جدا في ضوء هذه المعايير والقوانين، فهي جنس أدبي مستقل وخالص، مادامت ترتكن إلى أركان وشروط. فالأركان هي عناصر ثابتة لا يمكن الاستغناء عنها، أما الشروط فهي ثانوية ومتغيرة ومتحولة، تشترك فيها مع باقي الأجناس الأدبية الأخرى. ومن أهم الأركان التي تستند إليها القصة القصيرة جدا، نذكر: الحجم القصير جدا الذي لا يتعدى نصف صفحة، ووجود الحبكة القصصية المختزلة، بالإضافة إلى التكثيف، والإضمار، والإدهاش، والمفاجأة، والشذرة، وفعلية الجملة والتركيب. أما الشروط التي تشترك فيها مع باقي الأجناس الأدبية الأخرى، فهي الرمز، والانزياح، والتناص، والأسطورة، والإيحاء، والتلميح، والوصف، والفضاء، والشخصيات، والرؤية السردية، واللغة، والأسلوب...
وتتخذ القصة القصيرة جدا مثل باقي الأجناس السردية الأخرى أنماطا فنية مختلفة ومتنوعة، فقد تكون قصة قصيرة جدا واقعية، وقد تكون رومانسية، أو رمزية، أو سريالية، أو طبيعية، أو أسطورية، أو فانطاستيكية، إلخ...وذلك حسب المواضيع والتيمات والأشكال والمقاصد. وقد تكون قصة قصيرة جدا كلاسيكية أو تجريبية أو تأصيلية تراثية من الناحية المدرسية والجمالية. ويعني هذا أن القصة القصيرة جدا لا تختلف بشكل من الأشكال عن باقي الفنون والأجناس الأدبية الأخرى.
¯ بدايات القصة القصيرة جدا:
إذا أردنا تتبع تطور بدايات فن القصة القصيرة جدا ، فسنجده منتوجا إبداعيا حديث العهد، ظهر بأمريكا اللاتينية منذ مطلع القرن العشرين لعوامل ذاتية وموضوعية، وذلك مع إرنست همينغواي سنة 1925م، وذلك حينما أطلق على إحدى قصصه مصطلح :"القصة القصيرة جدا"، وكانت تلك القصة مكونة من ثماني كلمات فحسب:" للبيع، حذاء لطفل، لم يلبس قط". وكان هيمنغواي يفتخر بهذا النص الإبداعي القصير جدا، فكان يعتبره أعظم ماكتبه في حياته الإبداعية. بينما يعد الكاتب الغواتيمالي أوجستو مونتيروسو(Augusto Monterroso) أول من كتب أقصر نص قصصي في العالم تحت عنوان:" الديناصور":" حينما استفاق، كان الديناصور مايزال هناك/
Cuando despertَ, el dinosaurio todavيa estaba allي.". وتتكون هذه القصة القصيرة جدا من سبع كلمات فقط. و في سنة 2005م، سيكتب الكاتب المكسيكي لوي فيليبي لومولي (Luis Felipe Lomelي) قصة قصيرة جدا في أربع كلمات ، وهي:"هل نسيت سيدي شيئا ما؟ما شاء ربي!
/ ؟Olvida usted algo? -،Ojalل/!»
لكن هناك من يرى بأن القصة القصيرة جدا لم تظهر بأمريكا اللاتينية إلا في سنة 1950م بالأرجنتين ، وذلك مع مجموعة من الكتاب، مثل: بيوي كازاريس (Bioy Casares) وجون لويس بورخيس(Jorges Louis Borges) اللذين أعدا أنطولوجيا القصة القصيرة جدا ، وكانت هذه القصص القصيرة والعجيبة جدا تتكون من سطرين فقط. ومن أهم كتابها في هذه القارة: خوليو كورتاثار، وخوان خوصي أريولا، وخوليو طوري، وأدولفو بيوي كاسارس ، وإدواردو غاليانو، وخابيير تومبو، وخورخي لويس بورخيس، وإرنستو ساباتو، وروبرتو بولانيو، وخوسي دونوسو، وفيكتوريا أوكامبو، وخوان بوش، وأوغيستو مونتيروسو، وبيخيلبو بينيرا، وفلسبرتو هرنانديث ، وآخرون كثيرون...
وبعد ذلك، انتشرت هذه القصص القصيرة جدا بشكل من الأشكال بأوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، والعالم العربي ، وذلك عن طريق الترجمة والمثاقفة وعمليات التأثير و التأثر ...
و من جهة أخرى، يمكن الحديث كذلك عن كتابة قصصية قصيرة جدا عند بعض كتاب الرواية الجديدة ،الذين مالوا إلى التجريب والتثوير، وتغيير بنية السرد والحكي، وذلك من أجل تأسيس حداثة قصصية وروائية جديدة. وهكذا، تفاجئنا الكاتبة الفرنسية نتالي ساروت Nathalie Sarraute بأول نص قصصي قصير جدا بعنوان:" انفعالات/Tropismes " عام 1932م . وكان هذا العمل أول بادرة موثقة علميا بأوروبا لبداية القصة القصيرة جدا، وأصبحت هذه المحاولة نموذجا يحتذى به في الغرب . وترجم هذا النص الإبداعي الجديد في أوائل السبعينيات من القرن العشرين على يد الباحث المصري فتحي العشري (1971م) ، وقد سمى كتاب نتالي ساروت بالقصص القصيرة جدا، وإن كان هذا العمل في الحقيقة رواية لم ينتبه إليها الدارسون الغربيون إلا بعد خمس عشرة سنة من صدورها رسميا سنة 1939م، وذلك على يد جان بول سارتر (J.P.Sartre) وماكس جاكوب(Max Jacob). ويتضمن هذا العمل في الحقيقة أربعة وعشرين نصا قصصيا قصيرا جدا، بدون حبكات معقدة أو شخصيات أو أسماء أعلام ، حيث تتكئ الكاتبة على الضمائر الشخصية تنويعا وأسلبة، وتوصيف الانفعالات الداخلية، وربط الداخل النفسي بالخارج الحركي. ويعني هذا أن الكتاب عبارة عن قصص قصيرة جدا، تعتمد على التنكير في استعمال الشخصيات، والتوصيف النفسي الداخلي ، ورصد الحركات الانفعالية للشخصيات، وذلك في حجم قصصي قصير جدا ، يتراوح بين صفحة ونصف صفحة. وبعد ذلك، بدأت الصحف والمجلات العربية والغربية المتخصصة في فن القص تتأثر بكتابة نتالي ساروت، وتستلهم تقنيات السرد الموظفة لديها...
وعليه، فلهذا الفن الوليد في الحقيقة جذور عربية تتمثل في السور القرآنية القصيرة، والأحاديث النبوية، وأخبار البخلاء واللصوص والمغفلين والحمقى، وأحاديث السمار، علاوة على النكت والأحاجي والألغاز، دون نسيان نوادر جحا... ومن ثم، يمكن اعتبار الفن الجديد امتدادا تراثيا للنادرة والخبر والنكتة والقصة والحكاية، ويعد في العصر الحديث امتدادا للقصة القصيرة التي خرجت من معطف الكاتب الروسي گوگول.
هذا، وقد ظهرت القصة القصيرة جدا في أدبنا العربي الحديث، وذلك حسب المعلومات التي بين أيدينا، منذ فترة مبكرة مع جبران خليل جبران في كتابيه:" المجنون" و" التائه". كما انتشرت في الأربعينيات من القرن العشرين، وذلك عندما نشر القاص اللبناني توفيق يوسف عواد مجموعته القصصية :" العذارى" عام 1944م، واحتوت على قصص قصيرة جدا، لكنه سماها": حكايات ." وفي الفترة نفسها، سينشر المحامي العراقي يوئيل رسام قصصا قصيرة جدا ، كما يقول الناقد باسم عبد الحميد حمودي، فعد ذلك بداية لظهور هذا الفن في العراق... ثم ، تلاحقت الأجيال التي تكتب القصة القصيرة جدا في العراق، وكثر الإنتاج ما بين عقد الستين وعقد السبعين من القرن الماضي. فانتشرت قصص قصيرة جدا في البلاد، وذلك مع الكاتب العراقي شكري الطيار الذي نشر آنذاك الكثير من نصوصه في الصحف والمجلات العراقية، وخاصة مجلة: "الكلمة" التي توقفت سنة 1985م. كما أوردت بثينة الناصري في مجموعتها القصصية :" حدوة حصان" الصادرة عام 1974م قصة سمتها:" قصة قصيرة جدا"، ونشر القاص خالد حبيب الراوي خمس قصص قصيرة جدا ضمن مجموعته :" القطار الليلي" الصادرة عام 1975م ، ونشر عبد الرحمن مجيد الربيعي قصصا قصيرة جدا في الفترة نفسها. كما كتب الأديب هيثم بهنام بردى قصته الأولى سنة 1977م بعنوان:"صدى"، و نذكر كذلك ضمن اللائحة : جمعة اللامي، وأحمد خلف، وإبراهيم أحمد، وآخرين.... ولم تظهر القصة القصيرة جدا في سوريا وفلسطين إلا في السبعينيات من القرن العشرين، كما نجد ذلك جليا عند الكتاب السوريين، أمثال: زكريا تامر، ونبيل جديد، ووليد إخلاصي، والفلسطيني محمود علي السعيدي... ولم تظهر بالمغرب إلا في سنة 1996م مع الحسين زروق في مجموعته:" الخيل والليل"، وجمال بوطيب في مجموعته القصصية القصيرة جدا سنة 2001م، وهي تحت عنوان:" زخة...ويبتدئ الشتاء"...
وثمة محاولات أخرى في هذا المجال ، ولكن عن غير وعي أو قصد، كما نجد ذلك عند: يوسف الشاروني ، ونجيب محفوظ، ومحمد زفزاف، وأحمد زيادي، وإبراهيم بوعلو في مجموعته القصصية:" خمسون أقصوصة في خمسين دقيقة"...
ويتبين لنا من كل هذا أن ولادة فن القصة القصيرة جدا ، وذلك من حيث الوعي والمقصدية بشروط الجنس تحبيكا وتخطيبا، كانت ولادة عراقية ، وذلك على غرار ولادة قصيدة التفعيلة مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة. ولكن ولادة هذا الفن ، وذلك من غير وعي ونية وإدراك، كانت ولادة جبرانية بدون منازع.
ولكن على الرغم من ذلك، لم تتبلور القصة القصيرة جدا باعتبارها جنسا أدبيا جديدا من جهة، ولم تثر الجدال الفكري والإبداعي حول الاعتراف بمشروعيتها في ساحتنا الثقافية من جهة أخرى، إلا مع بداية التسعينيات من القرن العشرين ، وذلك في دول الشام (سوريا على سبيل الخصوص)، ودول المغرب العربي(المغرب على سبيل المثال). ومن الأسباب الحقيقية وراء ظهور هذا الفن القصصي الجديد في عالمنا العربي: وتيرة الحياة السريعة، وإكراهات الصحافة، والغزو الإعلامي الرقمي والإلكتروني، والمثاقفة مع الغرب، وترجمة نصوص القصاصين الغربيين، واستيحاء كتابات كتاب أمريكا اللاتينية، والميل إلى كل ماهو سريع وخفيف، وتفضيل خاصيتي الإيجاز والاختصار في عمليتي: الإبداع والترسل. لأن الكلام، كما عند العرب وبلغائهم وفصحائهم، ما قل ودل، فطابق المقال المقام أولا، ثم راعى الكلام مقتضى الحال ثانيا.
ومن باب الإضافة، تعد سورية من الدول العربية الأولى والسباقة إلى إرساء فن القصة القصيرة جدا تنظيرا وإبداعا وكتابة وإشرافا ونقدا، وذلك منذ السبعينيات من القرن العشرين، ولاسيما مع المبدع المتميز زكريا تامر الذي كتب مجموعة من القصص القصيرة جدا بشكل تلقائي وعفوي ، ووليد إخلاصي في مجموعته:" الدهشة في العيون القاسية " (1972م) ، ونبيل جديد في مجموعته:" الرقص فوق الأسطحة" (1976م)... وبالتالي، فقد كانت الملتقيات الأولى للقصة القصيرة جدا تقام بسورية، ومنها انطلق هذا الفن بشكل حقيقي تنظيرا وتطبيقا وتوجيها. ويعد كتاب:"القصة القصيرة جدا" للناقد السوري أحمد جاسم الحسين أول كتاب ينظر للقصة القصيرة جدا بالوطن العربي، وقد تم نشره بسورية سنة 1997م، وتبعه كتاب الفلسطيني يوسف حطيني:" القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق" سنة 2004م.
هذا، وقد انتعشت القصة القصيرة جدا بسورية انتعاشا كبيرا إلى يومنا هذا، إذ يمكن الحديث عن كثير من المبدعين المتميزين في هذا الفن المستحدث، مثل: طلعت سقيرق في مجموعتيه:" الخيمة و"السكين"، ووليد معماري، ونضال الصالح، ومحمد إبراهيم الحاج صالح، وضياء قصبجي، ونجيب كيالي، وعمران عز الدين أحمد في مجموعته:" يموتون وتبقى أصواتهم"،... وعزت السيد أحمد، وعدنان محمد، ونور الدين الهاشمي، وجمانة طه، وانتصار بعلة، ومحمد منصور، وإبراهيم خريط، وفوزية جمعة المرعي، ...
¯ مواقف ثلاثة من جنس القصة القصيرة جدا:
يلاحظ المتتبع لمواقف النقاد والدارسين والمبدعين إزاء فن القصة القصيرة جدا أن هناك ثلاثة مواقف مختلفة، وهي المواقف نفسها التي أفرزها الشعر التفعيلي، والقصيدة المنثورة، و يفرضها كل مولود أدبي جديد وحداثي؛ مما يترتب عن ذلك ظهور موقف محافظ يدافع عن الثابت والأصالة والهوية ، فيناصر النموذج المعياري والتأسيسي في كل فن، ثم يتخوف من كل ماهو حداثي وتجريبي جديد. وهناك موقف النقاد الحداثيين الذين يرحبون بكل الكتابات الثورية الجديدة التي تنزع نحو التغيير والتجريب والإبداع، وتستهدف التمرد عن كل ماهو ثابت. وثمة موقف المترددين والمتحفظين في آرائهم وقراراتهم التقويمية ، وتشبه هذه الطائفة موقف فرقة المرجئة في علم الكلام العربي القديم من مرتكب الكبيرة ، إذ تترقب هذه الفئة نتائج هذا الجنس الأدبي الجديد، وكيف سيستوي في الساحة الثقافية العربية ، وماذا سينتج عن ظهوره من ردود فعل؟!! ومن ثم، لا تطرح رأيها بكل صراحة وعلانية، إلا بعد أن يتمكن هذا الجنس من فرض وجوده، فيثبت نفسه داخل أرضية الأجناس الأدبية، ثم يرسخ أقدامه داخل حقل الإبداع والنقد.
وهكذا، يتبين لنا بأن هناك من يرفض فن القصة القصيرة جدا جملة وتفصيلا، ولا يعترف بمشروعيته وجدواه؛ لأنه يعارض مقومات الجنس السردي بكل أنواعه وأنماطه. وهناك من يدافع عن هذا الفن الأدبي المستحدث تشجيعا وكتابة وتقريضا ونقدا وتقويما ، وذلك من أجل أن يحل هذا المولود مكانه اللائق به بين كل الأجناس الأدبية الموجودة داخل شبكة نظرية الأدب. وهناك من يتريث ترددا ، ولا يريد أن يبدي رأيه بكل جرأة وشجاعة، فينتظر الفرصة المناسبة ليعلن رأيه بكل صراحة سلبا أو إيجابا.
وأعترف ، شخصيا ، وذلك عن قناعة راسخة ، بهذا الفن الأدبي الجديد كتابة وإبداعا وقالبا، وأعتبره مكسبا لاغنى عنه، وأنه من إفرازات الحياة المعاصرة المعقدة التي تتسم بالسرعة الهائلة، والطابع التنافسي المادي والمعنوي ، وذلك من أجل تحقيق كينونة الإنسان ماديا ومعنويا، وإثباتها بكل السبل الكفيلة لذلك، على الرغم من وجود هذا الجنس الأدبي في تراثنا العربي القديم بشكل من الأشكال.
¯ تسميات القصة القصيرة جدا:
أطلق الدارسون على هذا الجنس الأدبي الجديد عدة مصطلحات وتسميات لتطويق هذا المنتج الأدبي تنظيرا وكتابة، و الإحاطة بهذا المولود الجديد من كل جوانبه الفنية والدلالية والمقصدية. ومن بين هذه التسميات: القصة القصيرة جدا، ولوحات قصصية، وومضات قصصية، ومقطوعات قصيرة، وبورتريهات، وقصص، وقصص قصيرة، ومقاطع قصصية، ومشاهد قصصية، والأقصوصة، وفقرات قصصية، وملامح قصصية، وخواطر قصصية، وإيحاءات،والقصة القصيرة الخاطرة، و القصة القصيرة الشاعرية، والقصة القصيرة اللوحة، والقصة اللقطة، والكبسولة، والقصة البرقية، وحكايات، ولقطات قصصية، والقصة الومضة، وقصص مينيمالية، والتخييل المينيمالي، والتخييل القصير جدا، والقصص المختصرة أو المختزلة، والقصة الشذرة...
وأحسن مصطلح أفضله شخصيا ، وذلك لإجرائيته التطبيقية والنظرية، دون الدخول بطبيعة الحال مع الآخرين في سجالات جدلية، ونقاشات عقيمة دون جدوى ولا فائدة، و أتمنى أن يتمسك به المبدعون في هذا الفن الجديد، وكذلك النقاد والدارسون، ألا وهو مصطلح القصة القصيرة جدا ؛ لأنه يعبر عن المقصود بدقة ووضوح، مادام يركز على ملمحين أساسين لهذا الفن الأدبي الجديد، وهما: قصر الحجم ،والنزعة القصصية. كما أنه يترجم المصطلح الإسباني المعروف المعبر عن هذا الجنس الجديد في مجال السرديات الأدبية (Microrrelatos). ويعني هذا المصطلح الأجنبي المحكي القصير جدا، أو السرد القصير جدا، أو القصة القصيرة جدا.
¯ القصة القصيرة جدا وضرورة الاعتراف الشخصي والمؤسساتي:
بادئ ذي بدء، نثبت بأن جنس القصة القصيرة جدا فن صعب المراس، يستوجب الدقة الكبيرة، ومهارة الكتابة القصصية تحبيكا وتخطيبا، والتمكن من تقنيات التكثيف والاختزال، وتوظيف النزعة القصصية المناسبة بصورها البلاغية والسردية أحسن توظيف، وذلك من أجل إثارة المتلقي بعنصري الإدهاش والإغراب، ودفعه إلى استخدام ملكة التخييل و النقد والتصوير والتجريد. كما ننصح المبدع بألا يستسهل كتابة هذا النوع من الفن القصصي، فهو صعب التناول، يحتاج إلى مهارة كبيرة، ويتطلب تقنية حرفية جيدة، أكثر مما يستوجبها فن القصة القصيرة والرواية معا. كما يحتاج المبدع أيضا إلى عدة (بضم العين) نظرية مفاهيمية، وكفاءة آلية متفردة، وإلا سقط في شباك أدب الخاطرة، وكتابة النكت والألغاز والنوادر ، أو سقط في فن الأقصوصة أو فن القصة القصيرة، وذلك حينما يميل إلى الإسهاب في الوصف، وتشبيك الأحداث تمطيطا و تسريدا وتخطيبا. وينبغي على الناقد أيضا ألا يتسرع في حكمه على النصوص القصصية القصيرة جدا بالسلب والهدم والشجب نقدا وتقويما وتشديدا، وعليه أن يرحب بهذا الفن المستحدث بشكل من الأشكال ، ويشجع كتابه ورواده بتوجيهاته الموضوعية، لكي يتبوأ هذا الفن الجديد مكانته المناسبة، وذلك ضمن لائحة الأجناس الأدبية المعروفة.
وهنا، نسجل - ناصحين وموجهين - بأنه آن الأوان لتوسيع شبكة الأجناس الأدبية، و تمديد رقعة نظرية الأدب بفنون جديدة ، تفرزها ظروف العصر، وسرعة إيقاع الحياة المعاصرة التي تفرض علينا شروطها ومتطلباتها ،التي لا يمكن الانسلاخ عنها أو تجنبها. فلا بد – إذاً-ً من التكيف والتأقلم مع مستجدات السياق الزمني الآني، خاصة الفنية والأدبية منها. ولابد للمؤسسات التربوية الجامعية والثانوية والإعدادية والابتدائية، وكذلك المؤسسات الثقافية الخاصة والعامة، أن تعترف بكل المنتجات الجديدة في عالم الإبداع، سواء أكان ذلك مستوردا من الحقل الغربي أم مستنبتا في الحقل العربي ، وذلك بالتعريف والدراسة والتشجيع من جهة، وإقرارها في الكتب المدرسية والمناهج والبرامج البيداغوجية والديداكتيكية من جهة أخرى. ومن هذه الأشكال الأدبية التي نرى أنه من الضروري الاعتراف بها اهتماما وإنصاتا، نذكر: أدب الخواطر، وأدب اليوميات ، وأدب المذكرات، وفن التراسل، والأدب الافتراضي أو الرقمي، وفن القصة القصيرة جدا، وفن الرحلة، وفن الزجل، وفن التنكيت، وفن التلغيز، والقصيدة النثرية، والنقد التفاعلي الذي يرد في شكل تعليقات هامشية على النصوص المنشورة في المواقع الرقمية.
¯ أركان القصة القصيرة جدا وثوابتها المعيارية:
حدد الدكتور أحمد جاسم الحسين مقومات القصة القصيرة جدا في كتابه: " القصة القصيرة جدا"، في أربعة أركان أساسية، وهي:القصصية، والجرأة، والوحدة، والتكثيف . أما الباحث الفلسطيني يوسف حطيني ، فيحصرها في خمسة أركان أساسية ، وهي: الحكائية، والوحدة، والتكثيف، والمفارقة، وفعلية الجملة. أما الباحث السوري الأستاذ نبيل المجلي، فقد جمع خصائص القصة القصيرة جدا في أرجوزة على غرار منظومات النحو والفقه والحديث ، فحصر أهم مميزاتها في خمسة عناصر أساسية ألا وهي: الحكائية، والتكثيف، والوحدة، والمفارقة، وفعلية الجملة.
وإذا انتقلنا إلى المبدع السوري سليم عباسي، فقد حصر ملامح القصة القصيرة جدا في الحكائية، والمفارقة ، والسخرية، والتكثيف، واللجوء إلى الأنسنة، واستخدام الرمز، والإيماء، والتلميح، والإيهام، والاعتماد على الخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة، وطرافة اللقطة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها ، وقد ذكر هذه الملامح في الغلاف الخارجي الخلفي من مجموعته القصصية :" البيت بيتك".
ويتبين لنا من كل هذا أن سليم عباسي يخلط بين الأركان والشروط، أو بين الثوابت الجوهرية والتقنيات الخارجية، التي تشترك فيها القصة القصيرة جدا مع القصة القصيرة، والرواية، والفنون السردية الأخرى. أما الناقدة الدكتورة لبانة الموشح ، فتحصر عناصر القصة القصيرة جدا في: الحكاية، والتكثيف، والإدهاش .ويرى لويس بريرا ليناريس أن للقصة القصيرة جدا مجموعة من المؤشرات، وهي:
· حضور عنصر الدهشة.
· العلاقة بين العنوان والحبكة والنهاية.
· تركيب الجمل داخل النص.
· اجتناب الشرح أو التوسع.
· تنوع النهاية.
· القاعدة السردية.

تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لحضورك واهتمامك