التقاطعات الروائية والسير ذاتية


                                                                                 التقاطعات الروائية  والسير ذاتية 
                                                              في رواية "بريد الدار البيضاء" للأديب و الناقد نور الدين محقق

                         محمد يوب *
بريد الدار البيضاء
  أحيانا تمر أمامنا بعض المشاهد البسيطة في حياتنا فلا نعيرها أي اهتمام لكن الأديب بحكم حساسيته المفرطة ورهافة مشاعره يعمل على تدوين كل ما يمر عليه من أحداث بالرغم من بساطتها،لأنها تكون في القادم من الأيام هي المادة التي يمتح منها تجربته الإبداعية،وهذا ما سنعرفه من خلال ما التقطته عينا المبدع نور الدين محقق الذي سجل لنا في رواية "بريد الدار البيضاء" ما جرى من حوارات سرية بينه وبين كوثر التابعي الطفلة التي اتخذت منه صديقا لها يحاورها ويتبادل معها لحظات سعيدة مرت بينهما في فترة الطفولة عبر المراسلات البريدية.
  مراسلات كانت في فترة من فترات الزمن حكرا عليهما يتقاسمان فيها مشاعر الصبا المشتعلة بالإعجاب و الحب البريء الذي يفوح بكل معاني التقدير و الاحترام.كان ساعي البريد أحد أبطال هذه الرواية الذي يؤدي مهمته فيها دون أن يذكر بشكل صريح،كان كل من الصبي و الصبية اليافعين ينتظرانه بشغف شديد من أجل تسليمهما رسالة إما قادمة من الدار البيضاء أو قادمة من تونس.مراسلات كانت تعبر عن مشاعر الصديقين لكنها في عمقها كانت تحمل دلالات متعددة،كانت المراسلات هي الوسيلة الوحيدة التي يفرغ فيها الشباب اليافع آنذاك مشاعرهم النبيلة،فكانت تخرج من القلب لتصل إلى القلب مباشرة دون فلترة الشبكات اللاقطة أو الموزعة.
الرواية ومسألة التجنيس
عند قراءة رواية"بريد الدار البيضاء" للأديب و الناقد نور الدين محقق و الصادرة عن دار النايا،نلاحظ أنها تجمع بين طريقتين في الكتابة :السيرة الذاتية و السرد الروائي، وهما نموذجان سرديان متضادان ،و ما يجمع بينهما هو الحفر في الماضي المتخيل الراسب في ذهن السارد،هذا المخزون و الموروث الذي يثري ويغني الكتابة السردية سواء أكانت رواية أو سيرة ذاتية .
 كما أن ما يربط الرواية بالسيرة الذاتية هو ميثاق الشرف الذي أبرمته الرواية مع القارئ بواسطة ضمير المتكلم "أنا"الذي توارى وراء الضمير الغائب وهذا ما نراه هنا في الرواية(قرأ الكاتب قصة صديقته الكاتبة...)ص39 (فتح الرسالة وهو مستلق على السرير)ص41 ،لكن ما يربط هذا العمل بالرواية هو  أنه سرد يعتمد على التخييل الذي يستمد مادته من الواقع المتخيل.
فالأديب نور الدين محقق يريد أن يقنعنا بأن هذا العمل هو عبارة عن رواية من خلال تجنيسها على صفحة الغلاف وما يثير انتباه القارئ هو أنها تمعن في التقاط تفاصيل حقيقية من الواقع ومن حياة السارد مما يجعلنا متأكدين من ميل هذا العمل إلى السيرة الذاتية ،لكن طبيعة السرد الروائي يمنعها من الوقوع في خانة السيرة الذاتية ويدخلها في خانة التخييل الذاتي الذي يجمع بين الجنسين الأدبيين السيرة الذاتية و الرواية.
 حيث إننا نلاحظ اعتماد السارد على مجموعة من التقنيات التي تذيب السيرة الذاتية في السرد الروائي،على اعتبار أن السيرة الذاتية و السرد الروائي قطبين لجنس أدبي واحد،فالسيرة الذاتية و السرد الروائي ينطلقان من الواقع ومحاولة تسريد أحداثه ونقلها أدبا،وعندما نتحدث عن الواقع،لا نقصد به الواقع الآلي و الحرفي،وإنما نقصد منه الواقع المتخيل أو الواقع المسترجع عبر آلية التسريد الروائي.
ف"بريد الدار البيضاء " بهذا المعنى تنفلت من التجنيس الأدبي لأنها تجمع بين السيرة الذاتية و الرواية،فهي من جهة تعتمد على السرد وتتتبع الأحداث دون الدخول في تفاصيلها اليومية وهذا ما يبعدها عن المذكرات و اليوميات.و هي تلتقي مع الرواية عندما تقدم شهادة عن الواقع،وتلتقي مع التخييل الذاتي لأنها تقدم شهادة عن الذات.
  و الملاحظ أن السارد هو نفسه سواء اعتبرنا العمل رواية أو تخييلا ذاتيا، لأنه يعبر عن نفسه بقناع شخصياته .وفي الحالتين فإن السارد يعبر عن رؤية خاصة إلى العالم،رؤية تنطلق في الغالب من الأنا لتعبر عن الآخر،وهذا يظهر لنا من خلال تتبع الرسائل التي شارك في تأليفها السارد وكوثر التابعي لكنها تعبر في نفس الوقت عن أجيال متعددة عاشت نفس الشعور وجربت نفس التجربة.
فعند تتبعنا لتفاصيل الرواية نلاحظ انزياحها التلقائي تجاه الرواية في رصد الأحداث وتنوعها وتطور شخصياتها بلغة أدبية بعيدة عن الكتابة التقريرية المباشرة التي تختص بها المذكرات و اليوميات،كما أنها تبتعد عن الماضي المنقضي،وغير خاضعة للتوثيق المخزن في المدونات،إنها تحاول تخليق الماضي وتفعيله وتدفعه باتجاه الرواية.
فالسارد لم يرد كتابة سيرة ذاتية  وإنما كتب هذا العمل الروائي الذي يمزج بين السرد الروائي و التخييل الذاتي ليدوم.كتب هذا العمل ليبقى خالدا بعد غيابه،فبواسطة التخييل الذاتي المسرود تستمر السيرة الذاتية وتدوم إلى الأبد.يحاول إشراكنا كمتلقين في هذا العمل من خلال الضمائر ومن خلال ضمير(نا )الدالة على الجماعة وكأن الرواية تخصنا جميعا(مغرمين بالقراءة كنا وبالشغب أيضا...)ص83
 إن البطل "نور"  ، كما أراد السارد تسميته ، يبحث عن النصف الآخر الذي هو "كوثر" ، فهي بمثابة الصورة التي ينتظرها الرسام ولم تطاوعه بعد، يرسم صورتها في خياله وعندما يتوصل برسالة منها يشعر بالغبطة والسعادة التي ليس لها حدود، والحب و العشق بين "نور" و"كوثر" يتمان من خلال الأهواء، فالرسالة الحقيقية ليست هي الرسالة المكتوبة وإنما هي الرسالة التي يفك شيفرتها كلا الطرفين عبر بوابة الأهواء،باعتبارها علامة تدرك عبر الإحساس وليس عبر الواقع،فالبطل "نور" كان في حالة انفصال عن القيمة "كوثر" أي أنه كان في حالة عدم امتلاك لها وبالتالي فامتلاكها بالنسبة له كان عبر سميائية الأهواء وتحويلها إلى علامة يدركها عبر ما تقدمه له الرسائل من دلالات مضمرة بين السطور لا يفهمها إلا البطلين.
  وموضوع القيمة عند البطل"نور"  هو "كوثر" البطلة الموجودة في الواقع و في الخيال، يبحث عنها ليملأ عاطفته  ومشاعره الجياشة ،إنه يبحث عن النصف الآخر الذي يوجد في مكان آخر، فالبطل "نور" يكون هو المرسل و "كوثر" هي المرسل إليه والرسائل التي تجمع بينهما  هي "الرسالة" و المساعد هو "بريد الدار البيضاء" الذي يحتل مكانة هامة في ذهن المرسل و المرسل إليه،وبهذا الاسم عنون الكاتب روايته،غير أن هذه العوامل ستعترضها بعض المعيقات،منها بعد المسافة بين "نور" و"كوثر"،ومنع والد "كوثر" ابنته من استقبال رسائل "نور"، وهكذا لم يستطع "نور" التوصل إلى "كوثر" وبالتالي تبقى  اللهفة قائمة إلى حين كتابة هذه الرواية.
المرسل (نور)         الرسائل(الرسالة)      المرسل إليه(كوثر)
                                                                                            المساعد(ساعي البريد)                           المعيق( والد كوثر)
  كما نلاحظ بأن رواية "بريد الدار البيضاء" تنهل من سيرة صاحبها نور الدين محقق على لسان بطل روايته الذي هو "نور"، وتتقاطع مع سيرة غيره من الناس الذين اهتموا بفن المراسلات،والذين عاشوا نفس الوضع الذي عانى منه "نور"،عكس ما نجد في وقتنا الحاضر الذي يتميز بثقافة الانترنيت التي تساعد على تقريب العلاقات التواصلية من خلال الصوت و الصورة.
  فالبطل "نور" في الرواية هو نور الدين محقق وفي نفس الوقت هو القارئ الذي هو (النحن) الذين عشنا جميعا هذه الفترة من حياتنا لكننا لم نقم بتسجيلها عكس الأديب و الناقد  نور الدين محقق الذي استطاع تدوين هذه الأحداث وتقاسمها معنا في هذا الرواية، بمعنى أن الأديب لم يكتب شيئا خارج الذات .لقد قام بعملية تخليق وتحويل السيرة الذاتية إلى تخييل ذاتي الذي يقف في خط التماس بين السيرة الذاتية و الرواية،ولهذا عندما نقرأ  "بريد الدار البيضاء" نشعر وكأنه يعبر عن أنفسنا بلغته الأدبية التي تتميز ببنائها الفني وبلغتها الفنية  القريبة من نفس القارئ.

*        أديب و ناقد مغربي



تعليقات