قراءة نقدية
في
" ريف الحسناء"
للقاص ميمون حرش
في
كثير من الأحيان وأنا أتتبع المشهد الثقافي ببلادنا وبخاصة متابعة ما يصدر من
أعمال أدبية :رواية،شعر، قصة، قصة قصيرة جدا، أشعر بنوع من الإحباط وانسداد أفق
الانتظار،لما تعرفه الساحة الأدبية من عقم إبداعي يحسسني بأن الكتابة الأدبية
الحقة تسير في اتجاه الاختفاء و الانقراض، تاركة المجال واسعا لكتابة جوفاء تشجع
على الرداءة و على الفقر الفكري و الابتعاد عن المتعة الفنية و الجمالية.
لكن من
عادتي أن أترك باب الأمل مفتوحا وفي الأفق كوة صغيرة من خلالها أنتظر من حين لآخر
صدور أعمال أدبية فيها رائحة الإبداع و الجمال الفني، بإمكانه جذب القارئ المذواق
وإثارة انتباهه ويؤمن بأن هناك أعمال أدبية ينبغي أن تحظى بأهمية القراءة والاستمتاع
بعبق الكتابة وجمالية العبارات وهي تتحرك في فضاء هذه الأعمال الأدبية.
وهذا
النوع من الكتابة هو ما مدتني به(ريف الحسناء) لصاحبها ميمون حرش الذي كان ذكيا في
تجنيسها،حيث اكتفى بكتابة العنوان كعتبة هامة وأساسية وكحفز أساسي على القراءة،مذيلا
بلفظة نصوص،ليترك المجال واسعا للقارئ من أجل تصنيفها ووضعها في المكان المناسب
لها.
أهي
مجموعة قصصية؟... حيث القصص المشكلة لها تسير في نفس الاتجاه ولها نفس التيمة
وتعالج نفس الموضوع. أم هي كتاب قصصي؟ مكون من نصوص قصصية ميكروسردية كل قصة تتكلم
عن نفسها مشكلة عملا قصصيا منفردا ومنفلتا يأبى التجنيس ويرفض التخصيص.
لأن النصوص القصصية بهذا المعنى ترفض التخصيص
لأن ذلك الفعل يشعرها بنوع من التبخيس المعرفي في حقها،لأنها تؤمن بالحرية و
التحرر، لتبقى حرة تتحرك هنا وهناك تسرح وتمرح في جميع مجالات الفنون الأدبية قصة
وسينما ومسرح ولوحة فنية وتشكيل بألوان مختلفة.
وتبقى
القصة المحورية(ريف الحسناء صفحة 43) هي الخيط الرابط و الناظم الذي يؤلف بين
محتويات هذه القصص جميعها،فهي الجوهرة التي تزين القلادة القصصية و الحلقة التي
تربط النصوص القصصية فيما ما بينها وتوحد شبكة مواضيعها.
إن ريف
الحسناء للأديب المغربي ميمون حرش نصوص قصصية خارج التصنيف لأنها تتقاطع مع أجناس
أدبية كثيرة، فهي من جهة تتقاطع مع الشعر في لغتها الشعرية الشاعرية،حيث يظهر من
خلال القراءة الأولية بأن القاص كان دقيقا في اختيار ألفاظها وتراكيبها
وتعابيرها،فهي ألفاظ بويطيقية متحركة، تتحرك مجتمعة جيئة وذهابا، في إطار منظومة
نسقية لتأدية المعنى المتجانس وكأنها قطعة موسيقية تصعد وتنزل على السلم
الموسيقي،و السارد فيها هو رئيس الفرقة الذي يتحكم في مفاتيحها الموسيقية،ويعرف
كيف يوجهها الوجهة الصحيحة التي تناسب ذوق القارئ دون إغراق في لغة الشعر أو إغلاق
في منطق وتسلسل القصة(لو يخلص الإنسان للأمكنة وللأشخاص لرحبت الأرض ولما حرنت،ولأنبثت
قلوبا خضراء تتعرش في الصدور...أحمق من يتحدث عن عجائب الدنيا وأكثر حمقا من يجمع
التحف النادرة...عبثا يفعل...فلينظر إلى نفسه،هو التحفة، الإنسان تحفة في كبريائه
وغضبه وحقده وطيبته هو بلا نظير....و الشر -تحفته النادرة- إحدى براعاته على
الأرض) ريف الحسناء ص43/44
كما أن الكتابة القصصية في ريف الحسناء وطريقة السرد فيها تجمع بين ما هو جمالي وما هو فكري، فهي مجموعة من
المعاناة التي تتراكم في ذهنية الكاتب وفي نفسيته، تختمر وتنضج لتخرج في لحظة من
اللحظات في شكل أدبي خالد على شكل ألفاظ منمقة جميلة تعبر عن واقع محسوس بأسلوب
فني شاعري ومشاعري يكون رسالة أدبية تعكس الوعي الشقي والواقع الاجتماعي بتقنية
وحرفية عالية .
فريف الحسناء
للقاص ميمون حرش تتبع تفاصيل الواقع وتنقل حركيته بهذه اللغة الدينامية التي تتحرك
بتحرك الواقع، وتتبع فسيفساء الشخصيات المشخصة للأدوار المنوطة بها، فهي شخصيات
تؤدي أدوارها بحرفية الممثل الذي يؤثث فضاء خشبة المسرح الذي هو في الحقيقة خشبة
الواقع
(- إني أراك
يوميا هنا في الشارع،أو ليس لك بيت يأويك مع طفلك؟
- الشارع بيتي، ومع ذلك هم
يحسدوننا عليه،يعتبروننا مجرد زبالة تشوه شوارعهم الأنيقة...) ريف الحسناء ص 16
فالقاص هنا كان ذكيا في تتبع
الحوار العميق بين الشخصيتين من أجل لفت انتباه القارئ إلى ظاهرة التشرد و
المعاناة التي يقاسي منها عدد كبير من فئات المجتمع التي شاءت الأقدار أن ترمي بهم
على قارعة الطريق لتكابد مرارة الحياة التي لا ترحم.
فالقاص هنا يصف الواقع وينقله
للمتلقي ليس من أجل الانعكاس الآلي ولكن من أجل لفت انتباه الناس و المسؤولين إلى
ما تكابده هذه الفئة من المجتمع من قسوة الحياة و مرارتها .
و البحث في المسببات التي ساهمت
في انتشار هذه الظاهرة في مجتمعاتنا مركزا على ظاهرة البغاء وما تنتجه من أعداد
هائلة من أولاد السفاح(أطفال هزال،عراة يملأون الشوارع التي يمر بها،لفظتهم كل
الأمكنة المقفلة،وحده الفضاء المفتوح يمد ذراعيه لهم....آباؤهم فوق سرير ذات نزوة
تبغي كشف عورة،انصاعوا لغريزة حيوانية وقعوا بها وجود هؤلاء الأطفال ثم رحلوا
بهدوء....)ريف الحسناء ص59
إنها صورة حية
حركية تتحرك بتحرك الأبطال وتتجدد بتجددهم ، إن دلالة اللغة هنا في هذا المشهد
الدراماتيكي مأخوذة من واقع مر اختلطت فيه المشاهد الحقيقية بالمشاهد الخيالية،
غير أن القاص رفع هذا الواقع إلى الخيال وخلق منه عالما متخيلا جميلا لا يشعر فيه
القارئ بملل التقرير الأدبي، بل نراه يتنقل بالقارئ بين فضاءات النص المختلفة و
المتباينة .
كما أن تطريز
النص من حيث التسلسل المنطقي كان جميلا بحيث إن المشهد القصصي بل القصص كلها تجذبك
إليها دون أن تدري فتنقلك بين ردهاتها المتنوعة و المختلفة فلا تشعر فيها بالملل
تشعر بأنك تقرأ عملا دراميا كبيرا.
كما أننا ونحن
نتتبع القصص المشكلة ل( ريف الحسناء). نلاحظ بأنها تدخل في إطار الأسلوب السهل
الممتنع، حيث إن المتلقي لا يشعر بغرابة في اللفظ ولا في المعنى، وإنما يشعر
بالكلمات ترج ذهنه وتخلخل أفكاره وتدفعه إلى اليقظة وتحري تراتبية الكلمات
وتسلسلها المنطقي، خوفاً من القفز على المعاني التي تتسبب في انفراط عقد المعنى وإزالة
لذة القراءة.
ولهذا فالقارئ لريف الحسناء ينبغي عليه ألا
يكتفي بمظهر النصوص، بل عليه أن يخترق النصوص القصصية و يحاول تفكيكها لمعرفة أبعادها ودلالاتها، لابد من الاعتماد على
القراءة المتأنية للنصوص وتقليبها إلى أوجهها المختلفة، من أجل السير بشكل متواز
مع أبعاد القاص ورؤيته إلى العالم.
لأن الرؤية في
(ريف الحسناء) تتصف بصفة التناقض و الصراع الجدلي، الذي ينهض ويتحرك في إطار
سيرورة تتقاطع مع الواقع في ديناميته التي تسير مرة في اتجاه عمودي وأخرى في اتجاه
أفقي، هذا التنويع في الرؤية يساهم في تحريك الركود داخل المجتمع والحث على
التفكير العميق في الأشياء، ومحاولة إيجاد الحلول الممكنة لتفادي المعيقات و
المثبطات التي تكبل السير العادي للمجتمع وتفقده توازنه،إن القصص المشكلة لريف
الحسناء تنبه المتلقي لحالة عدم التوازن في المجتمع متأملة من خلال عملية السرد
القصصي و التتبع الفني خلق هذا التوازن،والبحث عن جانب التناغم الذي يحتاجه
المجتمع.
محمد يوب
21/07/12
تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لحضورك واهتمامك