الشعر المغربي وسؤال الحداثة



إن الرغبة في التجديد في جميع مناحي الحياة هي سنة طبيعية تتماشى مع قانون التطور الذي يعيشه الإنسان،لكن هناك بعض الجوانب التي يحافظ عليها ويحيطها بنوع من الهالة و التقديس،ويحاول المحافظة عليها بالشكل الذي وصلت إليه.
ويعتبر الشعر العربي من أبرز المجالات الفكرية التي أحاطها العرب بهالة من القداسة ووضعوا له حدودا لا ينبغي تجاوزها بقولهم الشعر"قول موزون مقفى يدل على معنى"قدامة بن جعفر
كما أنهم وضعوا للقصيدة الشعرية ضوابط ينبغي احترامها وعدم الخروج عنها وأي خروج عن هذه الضوابط يعتبر كفرا للمقدس الشعري فالشاعر محكوم بالوقوف على الأطلال و  وصف الراحلة و الدخول في  الموضوع إما المدح أو الهجاء أو الرثاء...
لكن هناك من كسر هذه القواعد وتجاوزها إما شعرا أو تنظيرا كما فعل كثير من دعاة الحداثة وقبل الشروع في مناقشة هذا الموضوع لابد من الوقوف على معنى الحداثة.
1-   الحداثة بين القديم و الجديد
في الحقيقة لا يوجد تعريف محدد للحداثة،إنها مفهوم فضفاض لا يمكن القبض عليه ولكل عصر حداثته وأنها تعني المعاصر فنيا وزمنيا وليس زمنيا فقط.
فالحداثة حداثات هناك الحداثة الغربية و هناك الحداثة العربية،و الحداثة في الدين و الحداثة في الفكر و الحداثة في الشعر،وما يهمنا هو الحداثة في الشعر وهي تعني في أبسط معانيها إيجاد ما لم يكن موجودا من قبل،ولها معنى الجدة عكس المعاصرة المرتبطة بالعصر حيث يكون المعاصر معاصرا في عصره ويصبح قديما في العصور القادمة،و الغاية من الحداثة وضع قطيعة ابستيمولوجية مع الشعر التقليدي.
فالشعراء القدامى بدؤوا الثورة على الشعر التقليدي منذ القدم منذ أبي نواس الذي أثرت فيه الحضارة العباسية ولم يعد يجد مكانا للوقوف على الأطلال:
عاج الشقي على رسم يسائله*********وعجت أسأل عن خمارة البلد
أما على مستوى المضمون فكان أبو تمام أول من تمرد على القصيدة التقليدية باعتماده أسلوب التلميح بدل التصريح وإخفاؤه للمعاني وراء لفظ غريب أو أعجمي وقد تتراص عدة معاني وراء الكلمة الواحدة باستخدامه أساليب استعارية وبلاغية مختلفة تخاطب العقل ولا تخاطب العاطفة.
والخوض في مواضيع لها علاقة بالطبيعة العصر العباسي ومحيطه الاجتماعي وما عرفه من تغيرات على مستوى البيئة الطبيعية حيث طبيعة العراق تختلف عن طبيعة شبه الجزيرة العربية وحدوث تغيرات على مستوى المجتمع كان لها أثر كبير على نفسية الشعراء،كمعاقرة الخمرة و التغزل بالغلمان....
كما أن التجديد طال الأوزان العروضية،فبعدما انتهى الخليل من جمع بحور الشعر الخمسة عشر أضاف الأخفش البحر المتدارك الذي يعطي للشاعر الحرية وطول النفس في التعبير عن المواضيع التي يريد الخوض فيها.
كما أنه في العصر الأندلس ظهرت نماذج شعرية جديدة تواكب طبيعة العصر و التغيرات الحاصلة فيه فظهرت الموشحات ودوبيت و الزجل و الملوف وكان وكان.....
أما في العصر الحديث فقد بدأت الحداثة مع أحمد فارس الشدياق والشيخ ناصف اليازجي وفيما بعد مع محمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي الذين ثاروا على القصيدة التقليدية وحرروها من قيود التقليد وخاضوا في مواضيع معاصرة تعبر عن روح العصر.لكن رغم ذلك بقيت معالم القصيدة القديمة راسخة في الشعر الحديث بالرغم من كل معالم الجدة و التحديث فكان حافظ إبراهيم يعبر عن الحرب بوسائل حربية قديمة كالسيف و الرمح مع العلم أن الحرب كان قائمة بوسائل حربية حديثة كالبندقية و المدفع.
بالإضافة إلى ذلك كان لشعراء المهجر أثر كبير في تحرير القصيدة العربية من قيود الشعر العمودي وقد لعب بعض النقاد آنذاك دورا كبيرا في متابعة أشعار الشعراء وتوجيههم التوجيه الصحيح في اتجاه التحرر من عبودية الشعر العمودي يقول ميخائيل نعيمة:"فلا الأوزان ولا القوافي من ضرورة الشعر ...فرب عبارة منثورة جميلة التنسيق موسيقية الرنة كان فيها من الشعر أكثر مما في قصيدة من مائة بيت بمائة قافية"
لكن اللغط الكبير الذي اندلع بخصوص الحداثة هو مباشرة بعدما نظم بدل شاكر السياب قصيدة"هل كان حبا" ونظمت نازك الملائكة قصيدة"الكوليرا" فلم يكن يخطر ببالهما أن هاتين القصيدتين ستتسببان في ثورة شعرية جذرية قلبت موازين الشعر العربي.
فالحداثة بمفهومها الغربي بدأت مباشرة بعد الثورة التي أحدثتها نازك الملائكة وبدر شاكر السياب مباشرة بعد نكبة 48 وما تلتها من هزائم وانتكاسات،وقد وافق ذلك ظهور بعض الحركات الفلسفية المتحررة التي تعطي للإنسان كينونته وتحرره من قيود العبودية مثل الفلسفة الماركسية و فلسفة هيدر وألتوسير ونيتشه و هابرماس....
 غير أن الحداثة ستعرف طفرة كبيرة وتطورا ملموسا مع أصحاب مجلة شعر اللبنانية بإدارة يوسف خال وعضوية أدونيس وقد انبهر بأفكارهم كثير من الشباب المثقفين لأنهم عبروا عن الذات وعن انكسارات الوطن العربي.
واعتمدت في طرح مفاهيمها على ما كان رائجا آنداك من فكر أيديولوجي قومي ورؤية إلى العالم و مناقشة قضايا العصر و الصراع العربي الاسرائيلي و الصراع الطبقي و الجدل و العقلانية و التخلف....
وقد طرحت مجموعة من الأسئلة يمكن تلخيصها فيما يلي:
1-   ماذا أضاف الشعراء إلى إيقاع القصيدة
2-   ماذا أضاف الشعراء إلى اللغة الشعرية
3-   ماذا أضاف الشعراء إلى الدلالة
وكان لدعاة الحداثة إجابات على هذه الأسئلة تتلخص في أنهم استطاعوا تكسير هندسة عمود الشعر التقليدي و الابتعاد عن التفعيلة التقليدية وتعويضها:
1-   بالتفعيلة الواحدة و السطر الواحد بدل البيت
2-   الوقفة العروضية التي تتداخل مع نفسية الشاعر(عز الدين اسماعيل)
3-   الوقفة المنتهية ببياض
4-   تنويع السطر الشعري
5-   التدوير النحوي و التركيب الدلالي
6-   التركيز على النيرة و الإيقاع الداخلي
7-   الجملة الشعرية القصيرة بدل القصيدة الطويلة
8-   المزج بين البحور
9-   الغربة والغرابة و المفارقة
10-                     تجربة الحياة و الموت
11-                     هجاء الأنظمة الحاكمة وهجاء الجماهير نزار قباني"لقد كان بإمكاني أن أتبع مبدأ التقية كما فعل الجبناء و الباطنية ولكنني اخترت أن أموت على الطريقة البوذية حرقا لأنني أومن بأن الكتابة نوع من الشهادة وأن الشاعر الحقيقي هو الذي يذبح بسيف كلماته كما فعل سقراط و الحلاج"
12-                     استخدام الرموز الأسطورية بشكل محين(الفينيق و العنقاء وسيزيف...).
13-                     اقتراب اللغة من الحديث اليومي (أمل دنقل)
وأدونيس باعتباره أحد الشعراء الحداثيين قام بنقلة نوعية على مستوى الكتابة وعلى مستوى التنظير ،فعلى مستوى الكتابة الشعرية عرفت قصائده انعطافة شديدة حيث القصيدة تتميز بلغتها المفارقة وبمضمونها المشحون بقضايا المجتمع وهموم الإنسان قصائد متأثرة بكتابات فلاسفة مشهورين كهيدجر ونيتشه وكانط...وكان ديوانه "أغاني مهيار الدمشقي"1960   يشكل انطلاقة فعلية للشعر الحداثي،شعر يحطم النطام شعر يبني استعاراته ليس على علاقات منطقية بين الأشياء،بل يقيم علاقات غير منطقية،خالقا منطقا خاصا هو أقرب إلى منطق الحلم،حيث تتحطم أسوار المدركات العربية وتدخل في عوالم فوق واقعية.
 أما على مستوى التنظير فله كتبات هامة جدا أبرزها كتابه الثابت و المتحول في ثلاثة أجزاء وكتابه التنظيري زمن الشعر الذي بين فيه الركائز الهامة التي يعتمدها الشاعر الحداثي وقد مهد فيه لما يسمى بما بعد الحداثة والسوبر حداثة.
أتساءل في الأخير وأقول هل الشعراء المغاربة تتوفر فيهم هذه الشروط التي اشترطها دعاة الحداثة و اعتبروها مقاييس ترفع من شأن القصيدة، أم ارتموا في أحضان الشعر الحداثي دون تسلح بآليات الكتابة في هذا النمط من التجريب الذي يحتاج إلى عمق فكري ومقروء كمي ونوعي يساعد على الرفع من النضج اللغوي و الدلالي عند الشاعر المغربي.

تعليقات