1- تقديم لابد منهيعتبر الشاعر إسماعيل زويريق من أبرز الشعراء المغاربة الذين يجوبون خريطة المغرب عرضا وطولا بحثا عن الكلمة الجميلة و عن المقطع الشعري المعبر قراءة و استماعا،تراه مصغيا مهتما بما تجود به قرائح الشعراء مركزا على مخارج الحروف ودلالات الكلمات.
فإذا كان المغرم بالصيد يخرج مبكرا لكي يبحث عن طائر يقتنصه أو طريدة يصطادها،فإن الشاعر إسماعيل زويريق يخرج دوما ليصطاد الكلمة المعبرة و القصيدة الهادفة،
و ما يسترعي انتباهي وأحتار في أمره هو سبب حمله للمحفظة الجلدية ذات اللون البني، والتي يبدو أن سره كاملا موجود فيها،حيث يستحيل عليه تسليمها لأي أحد ولو كان من أعز أصدقائه،جربت معه محاولا أخذها من يده امتنع وسلمني حقيبة أخرى فيها ملابسه وبعض مقتنياته، تراه يتأبطها جيئة وذهابا،لا تفارقه إلا وهو نائم،من حين لآخر يفتحها وكأنه يتبرك بها،يأخذ منها نسخا لكي يوقعها ويهديها لأصدقائه من المبدعين و الأدباء.
وأنا في إفران التقيته في تظاهرة شعرية احتفاء بالشاعر عبد الله الطني عانقني بحرارة كعادته، وفي لمح البصر فتح المحفظة خلسة مني و أخرج نسخة من ديوانه الجديد "أسرار الطين"سألته عن هذا العنوان قال لي: إنه لغز لابد على النقاد من كشفه،وسألته عن اللوحة التي على ظهر الغلاف قال لي: إنها إحدى لوحاتي التي رسمتها بيدي.
ألقيت نظرة على الديوان قارنت بين العنوان و لوحة الغلاف وجدت تناغما بينهما،ثم شرعت في قراءة الديوان جهرا على الحاضرين،و من حينها ربطت علاقة قوية بيني وبين هذا النموذج الجديد من كتابات الشاعر إسماعيل زويريق.
2- في عمق الديوان
إذا كان الشعر كما يعرفه بعض المهتمين بالأدب بأنه تعبير عن مشاعر الشاعر،فإنني أقول بأن الشعر هو مزيج فني لمعطيات مختلفة أهمها اللغة و الإيقاع وهموم الشاعر ومشاغله النفسية و الاجتماعية ...
فالشعر ليس حالة انفعال تخص الشاعر فقط بل هو حركة ودينامية تتقاطع فيها ذات الشاعر وذات المتلقي،حركة تنتج المتعة الفنية و الفائدة المعرفية،ففي الشعر نستمتع بجمال اللغة ونتوءاتها الفنية التي تحدث جرسا موسيقيا يرقى بالذائقة السمعية،وفيه كذلك تجليات اللحظة أو الزمن المفقود الذي نبحث عنه في تفاصيل القصيدة،حيث اللغة و الشاعر و المحيط الاجتماعي وتلقي و تأويل المتلقين شئ واحد.
ومن خلال قراءتي لديوان"أسفار الطين"للشاعر المغربي إسماعيل زويريق تابعت هذه النقلة النوعية في تعريف الشعر من التعبير عن الذات إلى الذات المعبرة عن نفسها،وقد ساعده في ذلك فسحة التعبير الشعري الحر الذي قدمته له قصيدة التفعيلة،حيث نلاحظ بأن الشاعر ابتعد في هذا الديوان عن القصيدة التقليدية إلى الشعر الحر ولكن ليست الحرية هنا بمعنى التسيب،وإنما الحرية في إطار المنطق و ما تستدعيه القصيدة الحرة من ضوابط ،دون أن يحدث قطيعة مع طريقة كتاباته القديمة.
فالجديد في هذا الديوان هو التغيير على مستوى الشكل وعلى مستوى المضمون،فعلى مستوى الشكل نلاحظ انتقال الشاعر من سيمترية القصيدة التقليدية التي تعتمد على نظام الشطرين إلى قصيدة التفعيلة التي أعطت الشاعر حرية التنويع و التجريب وطول النفس.
3- على مستوى البنية الداخلية
تؤكد الدراسات النقدية المعاصرة على أهمية اللغة وعلاقتها المتداخلة في النص الشعري حيث يصعب القبض عليها وإخضاعها لقوانين صارمة متعارف عليها.فاللغة الشعرية في ديوان"أسفار الطين" تقوم على الانشقاق و الخروج عن المألوف، ابتداء من العنوان حيث الأسفار هي الكتب و الطين هو الإنسان عكس ما يعتقده القارئ من معنى سطحي يطفو ويظهر من بنية النص السطحية.
فالإنسان في هذه الدنيا يحمل أسفاره ليسافر في فضاءات الدنيا المختلفة يتنقل في سفرياته عبر محطات الحياة،في كل محطة له تجارب مختلفة تتميز عن المحطة التي قبلها بالنضج الفكري و العاطفي وتزداد نضجا كلما ازداد الإنسان في العمر.
فالخطاب الشعري في الديوان"أسفار الطين" يندرج ضمن خطاب الشعر الحر الذي كسر فيه الشاعر المعتاد في كتاباته الشعرية حيث انزاحت الكتابة عنده بدرجة 180 درجة مئوية من الشعر التقليدي إلى قصيدة التفعيلة،لقد قام الشاعر بقطيعة ابستيمولوجية مع الموروث الشعري القديم ،اعتمد نظام السطر بدل نظام الشطرين، ونوع في القافية و الروي بدل القافية الواحدة كما أنه زاوج بين بياض الصفحة وسواد الكتابة لكي يترك للقارئ فرصة ملء الفراغات بما يناسب من مضمرات.
يتكون العنوان من جملة بسيطة مكونة من خبر(أسفار) حذف مبتدؤه المقدر ب "هي"، مضافا إلى معرفة(الطين) التي تجلي المعنى وفي نفس الوقت تستفز القارئ وتدفعه إلى استخدام التأويل النحوي من أجل استبطان المعاني و الدلالات المختبئة وراء الجملة الاسمية. فالنص يحمل توهجه الجمالى من منطلق الأنساق اللغوية والانزياح اللغوي للمفردة التي يدفعها إلى هجرة معناها المعجمي إلى معاني أخرى هي أساس المنطق الجمالي والتعبير الدلالي .
إن بنية اللغة الشعرية في ديوان "أسفار الطين" مربوطة بحركية غريبة استطاع الشاعر تتبع تفاصيل الكلمات المشكلة لأثاث القصيدة المطولة،هذه الحركية التي تمزج بين فضاءات النصوص المكانية و الزمانية وكأننا أمام فضاء واحد يتعايش فيه الزمان مع المكان في نوع من الهدوء الذي تفرضه طبيعة الشاعر الهادئة و المتزنة وطبيعة وهدوء المكان الذي نسجت فيه هذه القصيدة المطولة،وهو فضاء مدينة مراكش المدينة المغربية القابعة في سفوح جبال الأطلس الوازن والثقيل .
فالديوان عبارة عن قصيدة شعرية مطولة صيغت بأسلوب سلس معبر بلغة واضحة المعاني ليس فيها أي تعقيد، قصيدة مليئة بالصور البلاغية الجميلة التي تعبر عن نفسية الشاعر المتقدة و المشتعلة بفعل الخبرة و التجربة في الحياة،خبرته في عالم ملئ بالمتناقضات التي عبرت عنها الصور الشعرية المشحونة بالمفارقات ، قصيدة تبين صدق معدن الشاعر الملئ بالإيمان ، فتظهر من خلال القصيدة هذه المسحة الدينية والبعد الفكري و الدلالي التي تطبع مقاطعها و تتخلل مفصلياتها . قصيدة تمتح من الخيال الشعري و تأخذ من الواقع الواقعي و تمزج الخيال بالواقع وتنتج هذا العمل متخيلا يسبح بخيال القارئ في عوالم الشاعر النفسية والفكرية والوجودية ......
4- على مستوى البنية الخارجية
إن "أسفار الطين" يطرح علينا مجموعة من القضايا الكونية التي عبرعنها الشاعر شعرا، ومن أبرزها مسألة السفر في الزمن وفي العمق الإنساني، من أجل الكشف عن متناقضات الحياة، بلغة تتمدد بشكل دياكروني تخترق الزمن المعجمي لتتخذ لنفسها دلالات متعددة، تخترق الواقع الفيزيقي لتعبر إلى الواقع الميتافيزيقي:
(كن على أهبة الإسراء
فأنت الغريب بهذا الفناء الرحيب
وأنت الغريب بهذا الزمان العصيب
وأنت الذي أنضجتك الإساءات) أسفار الطين ص10
فالشاعر هنا بنظرته الثاقبة يحذر الإنسان من الاطمئنان إلى الزمن ،ويحضره ماديا ونفسيا للإقلاع الروحي و السمو النفسي، من هذا العالم الفاني الملئ بالإساءات إلى العالم السرمدي الممتد إلى ما لا نهاية...و الملاحظ في الديوان أن السطر الشعري يركب على السطر الذي قبله فاسحا المجال للسطر الذي يأتي من بعد من أجل خلق فضاء أوسط ومجال أرحب للتفكير.
والقصيدة عند الشاعر إسماعيل زويريق ليست شيئا لغويا وحسب،وإنما هي لغة مشحونة بدلالات متعددة وعمق فكري،يجمع بين البصيرة النقدية و الأصالة الشعرية،فقبل أن يكون إسماعيل زويريق شاعرا كان ناقدا خبر كل المذاهب الفلسفية و المناهج النقدية المعاصرة،ولذلك نجده يستبق قراءات النقاد حذرا من ملاحظاتهم ومن تعليقاتهم.
فالشاعر عندما ترك القصيدة العمودية ولجأ إلى الشعر الحر لم يكن هدفه التحرر من قيود التفعيلة وإنما تحرر من قيود الفكر التي تكبل الشاعر،وبهذا نراه قد تطرق إلى مواضيع تخص كينونة الإنسان والغاية من وجوده في هذه الدنيا،مكسرا مفهوم الزمن ومونوطونيته،وكأن الجملة الشعرية في حد ذاتها زمنا مستقلا بعيدا عن زمن الشاعر.
لأن الزمن زمنان زمن الوقائع وزمن الكتابة،فزمن الوقائع هو الزمن القابع في عالم الشاعر المتخيل، منه يستقي مادته الشعرية التي يتمثلها وينقلها في زمن الكتابة،وبين الزمنين يتدخل القارئ ليصنع لنفسه زمنا ثالثا هو زمن القراءة، الذي يحقق فيه متعته التي تسمى بالنرفانا القرائية،التي تخلخل المضمر الخفي و المشترك الثقافي الذي يشترك فيه الشاعر بقرائه.
فالصورة الشعرية في"و أنت الذي أنضجتك الإساءات"صورة استعارية مقلوبة فيها مفارقة تستفز القارئ وتجعله يقف ويتأمل في الطريقة التي تمكن الإساءات من تقويم الإنسان وتجعله ناضجا،إنها صورة قريبة من الصور التي نراها في الحلم حيث تتحطم الأسوار ويختلط فيها المعقول باللامعقول ،مما يدفعنا إلى قراءة الديوان قراءة وجدانية ممزوجة بالعقل و المنطق.لكي نتمكن من تتبع تفاصيله وفسيفسائه .
محمد يوب
11/04/12
تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لحضورك واهتمامك