شعرية اللغة الواصفة و التقطيع المشهدي

شعرية اللغة الواصفة و التقطيع المشهدي
1- تقديم
كثيرا ما تكون الكتابة القصصية مغرية ومحفزة على القراءة وخاصة إذا جمعت بين جودة المادة القصصية وقوة لغة السرد،وهذا ما تابعته من خلال قراءتي للديوان القصصي الموسوم ب(بستان الغزال المرقط) للأديب المغربي إسماعيل غزالي.

وحتى أكون منصفا فإن مصطلح الديوان القصصي هو للأديب أحمد بوزفور،ويقصد به جمع عدد من المجاميع القصصية تحت عنوان ناظم يجمع ويظم هذه المجاميع القصصية.


ويمكن أن نصنف هذا الديوان القصصي في خانة الأعمال الكاملة لكتاب القصة القصيرة،كما فعل أحمد بوزفور نفسه في"ديوان السندباد" عندما جمع فيه أعماله القصصية السابقة.

2- مورفولوجيا الديوان القصصي
إن"بستان الغزال المرقط" هو فسحة سردية في عالم إسماعيل غزالي القصصي،هو مجموع ما أنتجته مخيلته من أعمال قصصية لغاية اللحظة،فهو يضم أربع مجاميع قصصية هي:
1- عسل اللقالق
2- لعبة مفترق الطرق
3- منامات شجرة الفايكنغ
4- الحديقة اليابانية
وكل مجموعة قصصية تضم قصص تختلف مواضيعها شكلا ومضمونا باختلاف الظروف الذاتية و الموضوعية التي كتبت فيها هذه النصوص،لأنها نصوص متنوعة الفضاءات والأجواء العامة، فهي تتنقل بين فضاء  مريرت وكوبنهاكن والسويد و فرنسا... وما يربطها هو السارد نفسه.

ويتجلى الخيط الناظم عند تتبعنا لهذه النصوص القصصية من خلال البناء المحكم لعملية تسريد الأحداث بكونها تصب في مصب واحد،ولها استراتيجية محكمة ورؤية تاقبة إلى العالم ،مما يدفع القارئ إلى متابعة القراءة و الانسجام مع السارد في عالمه الخاص وهو العالم المتخيل.
كما أنه لايوجد في هذا الديوان القصصي تنافر في القصص ولا ارتباك في طريقة السرد بل إن هناك خيطا ناظما يجمع بين هذه القصص ويوحد الرؤية والمشروع القصصي الذي خطط له مسبقا الأديب إسماعيل غزالي. حيث إن المسافة بين السارد/القاص و الواقع تبدو قريبة وكأن القاص يعبر عن واقع معيش تعددت أحداثه واختلطت فيه الوقائع بالأحلام وبالمنجزات و الخيبات و السارد/القاص فيها هو بؤرة القصة. بمعنى أن النصوص القصصية في هذا الديوان القصصي نصوص إحالية referentiel كما قال تودوروف فليست مجرد تتابع لمجموعة من الألفاظ و التراكيب وإنما هي إحالة إلى واقع ما، كان واقعا ماديا تحول في وقت من الأوقات إلى واقع متخيل،غير أن هذه النصوص القصصية لا تعكس الواقع بشكل آلي وإنما تعكسه بشكل أدبي حيث النصوص القصصية تكون مفارقة لمرجعها الذي هو الواقع المعيش.


3- سميائية العتبات
وللدخول في تفاصيل هذا الديوان القصصي لابد من الوقوف على عتبة العنوان لتشخيص محتوى القصص باعتباره محطة أساسية لولوج عالم النصوص القصصية .
فالعنوان يساعدنا على فهم مغاليق النصوص القصصية ويفتح أبوابها لمعانقة مدركات المتلقي،فكلمة "بستان"بصيغة التنكير هنا هو هذه التشكيلة المتنوعة من القصص التي تتوزع بصريا وتناصيا وتخاطبيا على بياض الصفحة،و الغزال المرقط هو القاص نفسه إسماعيل غزالي الذي يتحول من حين لآخر من الغزال الوديع إلى الغزال المرقط الشرس الذي يغير جلده ويصبح قويا شرسا كشراسة النمر المرقط في حال دفعته الضرورة إلى ذلك.
بمعنى أن الغزال المرقط يحمل صفة الغزال في براءته ويبدو هذا في نقل أحاسيسه ومشاعره تجاه محيطه الاجتماعي بطريقة حساسة ومرهفة...وفي لحظات فجائية يتصف بصفة النمر المرقط الشرس عندما يستفز ويخدش في كبريائه وكرامته.

إن البطل هو نفسه السارد في جميع القصص، لا يتغير مسار خطه في سرد الأحداث، ونادرا ما تتغير نبرة صوته من أجل كسر رتابة السرد لكي لا يشعر القارئ بالملل أثناء تلقي الأحداث .
نجده يحاور نفسه، ومن خلال هذا الحوار يحاور الشخصيات المساعدة التي تتقمص الأحداث و تعبر عنها، وهو في نفس الآن يعمد إلى إشراك المتلقي في نسج خيوط القصة، وترتيب جوانبها بتقنية جديدة تعتمد على الهدم و البناء، هدم السرد وإعادة بنائه من جديد دون قطع حباله المسترسلة والمتماسكة،وهو نفسه الذي يقوم بأداء أدوار باقي الشخصيات.
والسارد/القاص في هذا الديوان القصصي يبدو وكأنه كلي المعرفة يتتبع تفاصيل الواقع وفسيفسائه،يتتبع تفاصيل الشخصيات وحركاتها ،يتلاعب بالزمن ويعدد صيغ السرد الروائي من السرد التزامني إلى السرد الدائري ويحطم تقنية الحبكة و الحل ويخلق مناخا جديدا لأبطال قصصه.
إننا بصدد قراءة ديوان قصصي يجمع بين السرد القصصي و السرد السير ذاتي لأن الضمير الغالب في هذه القصص هو ضمير المتكلم(أول شئ أسأل عنه مع دخولي لبيت أي صديق هو مكتبته...) ص201

4- توازيات السرد الوصفي و اللغة القصصية
إننا نلاحظ بأن إسماعيل غزالي كانت له القدرة على جعل المقروء محسوسا،حيث القارئ يشعر بمتعة اللغة وهي تصف الأماكن بأبعادها الثلاثة،وكأن القاص  يحمل كاميرا على كتفه ويتتبع مجسات الطبيعة وهي تتحرك وتتنفس أكسجين الحياة،وكأن الديوان القصصي كتب لمتعة العين(على دراجته النارية،المارقة،ذات الأزيز الحاد و الدخان الفاحم،وجد نفسه منشطرا في مهب أكثر من وجهة،في مفترق ثلاث طرق:
الطريق الذاهبة يمينا صوب الغابة.
الطريق الذاهبة شمالا صوب النهر
الطريق الذاهبة أماما صوب جبل الثلج)ص115
فالمشهد القصصي يبدو وكأنه قدم في كادر حركي مليئ بالحيوية و الحياة.
وهكذا هي أغلب القصص تنمو وتنهض على تقنية اللغة الواصفة،وكأنه يريد توريط القارئ في ما سماه ابن رشيق القيرواني بفتنة اللغة،حيث إن اللغة عندما تكون صادقة تكون صادمة تصدم القارئ بفتنتها وبقدرتها على الانفجار و الانزياح،لأن اللفظة في هذا الديوان القصصي لا تفهم مستقلة وإنما تفهم في السياق اللغوي، تفهم في علاقتها باللفظة التي تجاورها،كما أنه لا ينبغي النظر إلى اللفظة وحدها بل ينبغي الاهتمام بالجملة القصصية في حركيتها وديناميتها،فالجملة القصصية لها خواص شكلية ولها في المقابل خواص جوهرية تفهم في سياقها وفي تعالقاتها وتشاكلاتها،مما يدفعنا إلى التعمق أكثر و النظر إلى ما فوق الجملة القصصية أي النظر إلى النصوص القصصية حينما يكمل بعضها البعض ومن هنا جاء اسم الديوان القصصي،لأنه النصوص المشكلة له هي نصوص متناغمة ومنسجمة تفهم في حالتها الشمولية .

كما أنه عند قراءة "بستان الغزال المرقط"تشدنا اللغة القصصية التي تمزج بين شعرية الشعر ومنطق القصة وسيرورتها/صيرورتها وحبكتها،وما توحي به اللغة من خيالات وفضاءات متنوعة تخلقها تقنية التقابلات اللغوية المستفزة لذائقة المتلقي(أيها الأصدقاء،الأعداء،ويا أيها الأعداء،الأصدقاء) ص 129
كما أننا نقف ونحن نتعمق في المسرودات القصصية على تقنية السرد الحكائي الفرجوي المتأثر بالمقامات الذي يكون القصد منه استمالة القارئ وإثارة انتباهه،معتمدا في ذلك على التقطيع الحكائي، وكأن القاص يجسد هذه المقاطع القصصية ويجسدها في شكل مشاهد سينمائية أو مسرحية
(قالت له مباغتة إياه.
سعدت بهذه الكأس الدينيزوسية.
هتفت وهي تقف في ذهول مودعة إياه مضيفة.
على أمل أن نلتقي.
عرجت في مشيتها صوب موقف الباصA6 وركبت في دقائق ملوحة له بيدها من وراء النافذة مع ابتسامة ملائكية)ص164 .
كما نلاحظ اعتماد القاص أسلوب السرد الاسترجاعي القائم على تقنية الذهاب و الأياب مع المحافظة على اللازمة التي تتكرر في بداية المقطع القصصي(الراقصة الذائعة الأناقة)(الراقصة ذات القدمين الملائكيين).... فالجملة القصصية الواحدة تؤدي مجموعة من المشاهد المختلفة، وفي هذا النوع من الكتابة الأدبية اقتصاد في لغة السرد، بل أكثر من هذا تبقى الجملة القصصية هي نفسها  لكنها تتحول إلى لغة انفجارية، تحتمل دلالات متعددة حسب موقعها في بنية النص ككل،مما يعطي تعدد القراءات بتعدد التأويلات.
5- على سبيل الختام
إن "بستان الغزال المرقط" مليئ بالتشويق و الإثارة فيه حركية ودينامية وقد ساعد في ذلك النهايات المفتوحة على الآتي غير الجاهز وعلى المفاجآت التي تخفيها الحياة للأبطال الذين هم في النهاية بطل واحد هو القاص/السارد من زوايا و رؤى متعددة.
فبالرغم من تعدد القصص وتعدد السراد فهي تبدو موحدة الرؤية تتقاطع فيها ذات القاص وذات القارئ لان الأحداث تتناص مع المخزون القرائي ومجريات الأحداث التي يعاني منها القارئ نفسه، فهي لا تخفى عليه لأنه كلا من القاص و القارئ ينهلان من بيئة واحدة وتعبر عن هموم وانشغالات متشابهة.
محمد يوب
ناقد أدبي

تعليقات