يتفق الباحثون في الوقت المعاصر بأن الثقافة تتسم بسمة المراجعة و
التقويض؛وأن العالم ينتقل من حالة إلى أخرى؛بوتيرة سريعة لا حدود لها؛حيث الحياة
اليوم ليست شبيهة بما كان عليه العالم في القرن الماضي؛في جميع المستويات الثقافية
و الاجتماعية و الاقتصادية....
وما يجري في العالم من تغيرات تنتقلُ عدواها إلى العالم العربي؛
فيتأثر إيجابًا أو سلبا بكل هذه التغيرات؛بحكم التلاقح الثقافي و التمازج المعرفي
لأن جميع الثقافات تستفيد من ثقافة وحضارة حوض البحر الأبيض المتوسط بواسطة
الترجمات؛أو حوار الثقافات.[1]
ومن عادة المؤرخين تحديد تواريخ معينة رغبة منهم في ضبط بداية أونهاية
مرحلة تاريخية معينة للشعر العربي؛عبر مسيرته في تغيير جلده وتطوير نفسه من بنية
إلى أخرى ومن طريقة في التعبير إلى أساليب تعبيرية تختلف باختلاف المدارس و
الاتجاهات الشعرية التي انتشرت و ازدهرت في مرحلة من مراحل الشعر الذي يواكب
تغيرات ومستجدات العصر.
2-
مفهوم التجريب
من طبيعة قصيدة النثر أنها لم تنتم إلى مجال فني وإبداعي يكرس المألوف،ويستكين
للجاهز في عالم الإبداع الشعري،بل إنها استندت على فلسفة إبداعية تؤُطرها مقولة
"المغايَرة الخلاقة" التي تخلخل الجاهز وتتمرد عليه.
وقد أجمع الدارسون على أن قصيدة النثر؛ امتدت في سيرورة تنموية قوامُها
التحولُ الدائم؛سواء أكان تحولا ساهمت فيه عوامل ثقافية وإبداعية فنية،أو كان تحولا
أفرزته عدة مستجدات اجتماعية وسياسية واقتصادية،فهي رهان إبداعي مفتوح؛لا حدود له؛
ليست له قواعد ثابتة وراسخة ؛إنه يتمظهر على أصعدة ومستويات مسها الخرق كبنيات تَهم
اللغة؛ والتقنية؛والبناء المعماري؛والمرجعية؛ودينامية الانفتاح على فنون ومعارف موازية،
كما أنها لا تخضع لوصفة عامة أو إطار جاهز.
فالتجريب إذن رؤية فنية ذاتية وصيرورة فكرية شخصية ؛ يصوغها الشاعر في
مختبره أو مشغله الشعري،الذي يَخضع
باستمرار للتبديل والإزاحة والتحوير وتقليب القوالب الجاهزة؛ ومراجعة معنى التجريب
وجدواه.
فالتجريب في قصيدة النثر بهذا المعنى يعتبر ممارسة
فنية مؤطرة بأفق إبستيمولوجي؛ غايته نقض التّكرار الممل؛ وخرق المتداولِ والمألوف في
الكتابة الشعرية،يكسر نظرة الانبهار بالقديم،لأنه يعبر عن رغبة قوية تشترك فيها ثلاث أياد،يد الشاعر ويد القصيدة ويد
القارئ الذي يُفعل عملية التجريب ويترجم أبعادها ودلالاتها.
3-
قصيدة النثر ومسألة التجنيس و التأصيل
تستوقفني دوما تلك القناعة التي أصبحت راسخة
في أذهان كثير من النقاد العرب؛ الذين يعتبرون أن قصيدة النثر لها أصول ثاتبة في التراث
العربي؛حيث نجدها في النثر الفني القديم؛مستشهدين بكلام أبي حيان التوحيدي الذي ألغى
المسافة بين الشعر و النثر عندما قال:"أحسن الكلام ما قامت صورتُهُ؛بين نظم كأنه
نثر؛ونثر كأنه نظم"
غير أن الحقيقة هي أن قصيدة النثر منفلتة لا تخضع لضوابط محددة
تسجل ميلادها؛وتتبع تاريخها؛لأنها فعل شعري يتنكر للتأريخ ويرفض الصرخة الأولى؛لأنها
كيان حي مستمر في الحياة وفي تجديد وتطوير نفسه عبر الأزمان.
قصيدة النثر فعل كوني لا يستسلم للنمط
الأولي؛ولا يلتفت إلى ترتيب شجرة الأنساب؛دون أن يهمل شهوة اللغة وشبق الإيقاع
العضوي[2]
إنها تشبه في طبيعتها نبتة "الجذمور"
وهو النبات الذي ينمو في جميع الاتجاهات،بلا جذر ولا ساق؛ تحطم الوحدة الخطية للمعرفة،
وتكسر نظرية الإحالة على الوحدة الدورية للعَود الأبدي الحاضر كمعطى غير معروف داخل
الفكر؛حيث إن مفهوم الوحدة يتعرض باستمرار للإزعاج وللعراقيل داخل الموضوع، في حين
ينتصر نوع جديد للوحدة داخل الذات.
إن قصيدة النثر في ضوء نظرية الجذمور لا
تبدأ ولا تنتهي، وتعمل على خلخلة فعل الكينونة واجتثاثه، فهي موجودة دائماً في الوسط،
بين الأشياء، إنها كائن بيني،ترابطي وتعاطفي،يتحقق بين عنصرين متنافرين بتركيبة مفتوحة
على كل التوليفات بطريقة أفقية أي على مستوى البساط وليس على مستوى الجذور،إنها تحالف،إنها تعتمد طريقة أخرى في السفر والتحرك،
فهي تنطلق من الوسط، ومن خلال الوسط تدخل وتخرج ولا تبدأ ولا تنتهي .
إن قصيدة النثر تتخلص من الأصول الثابتة؛
وغير قابلة للانتساب إلى أي نوع من أنواع الكتابة الشعرية؛إنها تدور حول نفسها وتتفرع
بكثرة جانبياً ودائرياً، تتوفر على مداخل متعددة، وتتوفر على خط الهروب كممر للتنقل
وتغيير المحطات،وخاضعة للقانون التعددي الذي
ينميها ويبعتها على التطور.
4-
الشبيه بقصيدة النثر
عند تتبع ما يصدر من أعمال شعرية تندرج
تحت مظلة قصيدة النثر،نجد أن هناك كثيرا من الكتابات التي لا تمت بصلة إلى قصيدة
النثر؛حيث الكم لا يدل على صحة جسم القصيدة بقدر ما يدل على ورم كبير أصابها؛ولم يكن
الكم دليلا على قيمة وإنما يدل على وفرة سوقية؛مَا تَوفرَ كثيرا في السوق قل سعره
وقل طلبه.
والدافع إلى استسهال قصيدة النثر هو
التحرر من الوزن و القافية والاختباء وراءغموض المعنى؛فبدأ الكثيرون يكتبون
بالطريقة التي تروق لهم؛حيث ظهرت كتابات كثيرة شبيهة بقصيدة النثر.
وهذا الاستسهال يدفعنا إلى البحث عميقا
عن بدايات قصيدة النثر،التي تعود إلى سنة 1886 بأوربا عندما تخلص الشعر من الشكل الثابت
الذي ظل مرتبطا به لفترات طويلة؛وبالذات في الشعر الفرنسي؛حيث دعا بيرس وآخرون معه
إلى دمج الوسائل التقنية و الشكلية لكل من الشعر و النثر مع بعضهما البعض؛كما طالب
أصحاب المدرسة الرمزية بردم الفجوة الشكلية بين الشعر و النثر؛ لأن الاختلاف بينهما
في الدرجة وليس في الطبيعة.
وهكذا ولد نموذج في الكتابة سمي بقصيدة
النثر وهو "أول طابع للتمرد على القوانين القائمة و الطغيان الشكلي" كما
قالت سوزان بيرنار؛ فهي نتاج إلغاء الحدود و الفواصل الموروثة من الأشكال التقليدية؛وهي
كتابة متمردة وأكثر حرية،وليست قصيدة النثر خاتمة المطاف لمسيرة النثر بل ذروة اتصالها؛ولم
تستنفذ بعد تجاربها وممارساتها؛لإرساء أشكال أكثر تطورا ورقيا في مسيرتها الجديدة.
وقد أوجزت سوزان بيرنار المبادئ الأساسية
لقصيدة النثر في مجموعة من العناصر: الحصر؛الإيجاز؛ شدة التأثير والوحدة العضوية؛ وتهتم
بإيقاعها المعنوي الناتج عن مظاهر الموسيقى الداخلية؛مثل التقديم و التأخير و الحذف الالتفات.
أما في الوطن العربي مازال مصطلح
"قصيدة النثر" الذي ترجمه أدونيس عن سوزان بيرنار سنة 1960 هو الأكثر
استعمالا في النقد العربي المعاصر؛بالرغم من الجدل القائم حول الاسم الذي عَرَفَ
مسميات كثيرة ومتعددة؛ منها الشعر المنثور؛و النثر الشعري؛ اللذان نَعتا قصيدة
النثر في مرحلتها الأولى أي في مطلع القرن العشرين إلى الخمسينيات منه .
وقد صدرت أول مجموعة شعرية من نوع
الشعر المنثور عام 1910 تحت عنوان
"هتاف الأودية" لأمين الريحاني.
وأول مجموعة شعرية من نوع "النثر
الشعري" سنة 1914 تحت عنوان "دمعة وابتسامة" لجبران خليل جبران.[3]
غير أنه في خمسينيات القرن الماضي؛
بدأت المسافة بين الشعر والنثر تنمحي مع يوسف الخال وخليل حاوي ومحمد الماخوظ
وسعدي يسف.... الذين أعطوا حق العبور من الشعر إلى النثر؛وإنتاج نموذج إبداعي ثالث
؛سيعرف باسم قصيدة النثر؛متأثرة بمرجعيتين هما: المرجعية الأوروأمريكية "بودلير؛رامبو؛ويتمان"
من جهة ؛ ومن جهة أخرى المرجعية العربية "الكتابات الصوفية كالنفري؛كتابات
الشعر المنثور و النثر الشعري" إضافة إلى مسكوكات إنسانية قديمة كصياغات
جلجاميش ونصوص الكاهن الكنعاني؛ونصوص الحب و الموت الفرعونية.
5-
خصائص ومميزات قصيدة النثر
وقد نمت قصيدة النثر وتطورت بعد
انتكاسة 1967 في ظل الصعود الجماهيري الموالي للثورة الفلسطينية؛وازداد تطورها بعد
حصار بيروت 1982؛ ومنذ منتصف الثمانينيات أصبحت قصيدة النثر هي قصيدة العولمة؛ تعبر
بشكل طبيعي عن حالة التشظي العربية منذ نهاية الحرب الباردة؛و تعبر أيضا عن حالة التجريد؛وتبريد
اللغة الشعرية و اتخذت شعارا لها: "المغايرة؛الاختلاف؛الانشقاق؛الهامشية؛التجاوز
و التخطي..."
وتطورت قصيدة النثر في التسعينيات
بإيصال التجريب اللغوي إلى الحد الأقصى؛ إلى درجة الإشباع باعتماد ما سماه عز
الدين المناصرة ب "تبريد اللغة الشعرية" ومعناه إذا كان التوثر الشعري
بأساليبه المختلفة موجود في نصوص كثيرة؛فإن الميل العام الأبرز هو التأمل الهادئ
للأشياء؛باعتماد لغة السرد الباردة التي توصل المعنى بشكل هادئ وسلس؛معتمدة مجموعة
من الأساليب منها الكثافة الشعرية؛و التكرار؛وتوزيع سواد النص على بياض الصفحة؛والتناص
مع نصوص أخرى محاورة او مجاورة؛كالنص الديني أو الصوفي أو الفلسفي......
ومما زاد من جمالية قصيدة النثر في
التسعينيات؛ اهتمامها بشكل كبير بالتعبير عن الجسد بتجلياته السطحية و العميقة "الشهوة؛البوح
الداخلي؛الدلع النسائي" بمعنى تغيير معاني الحب؛إلى درجة أن بعض الشاعرات
أصبحن أكثر جرأة في التعبير عن الجسد من الشعراء الذكور.
إضافة إلى ذلك ظهور ما يسمى ب "النص-
اللقطة السينمائية" وهو نص مشهدي دائري يستخدم لغة السيناريو السينمائي بفعل
المضارع.
وهناك "النص- التوقيعة"
المكثف جدا وله مطلع وقفلة؛يميل إلى الادهاش البصري و اللغوي.
و هناك السخرية السوداء السوريالية؛العبثية؛
التي تعبر عن الاسترخاء العبثي تجاه العالم.
كما أن هناك الاهتمام بلغة الحياة
اليومية ورسم الصور التفاصيلية بدلا من اللغة الفصيحة القديمة.
محمد يوب
[1] - كتابة المحو – محمد بنيس – دار توبقال - ص62
[2] - كتابة المحو – محمد بنيس – دار توبقال – ص69
[3] - إشكالية قصيدة النثر – عز الدين المناصرة –
ص94
