حدود القراءة وتخوم النص



حدود القراءة وتخوم النص
قراءة في ديوان وحي البيضاء
للشاعر محمد العياشي
من أشهر المعارك الأدبية التي شهدتها مصر في بداية القرن العشرين نجد المعركة الأدبية التي عُرفت باسم «معركة الديوان» بين العقاد من جهة وأحمد شوقي أمير الشعراء من جهة أخرى؛ والتي أسفرت عن كتاب شهير في تاريخ الأدب العربي المعاصر وهو كتاب «الديوان في الأدب والنقد» الذي اشترك العقاد مع صديقه المازني في تأليفه وصدر في سنة 1921، وقد تكفل العقاد فيه بنقد شعر شوق؛ وإن خرج النقد عن حدود المألوف في النقد وتعدّاه في أحيان كثيرة إلى هجوم شخصي؛ لكننا هنا في هذه المداخلة لن نخرج عن حدود اللباقة الأدبية لأننا سنتناول الديوان من منظور هيرمنيوتيقي يتغيأ القراءة المتعددة التأويلات؛ لأن القراءة النقدية انكشاف واكتشاف؛ حيث إننا عند قراءة ديوان وحي الدار البيضاء للشاعر محمد العياشي لا يمكن اختزاله في عملية تأويلية ممنهجة أو مؤطرة بحدود تعددية القراءة؛ وإنما ينبغي أن ينظر إليه كفعل استكشاف وتجلي واستنطاق أولي؛ بمثل ما قام به صاحب العمل وهو يكتشف ويستنطق البيضاء؛ وأتساءل كما يتساءل الجميع عن أي بيضاء يتحدث عن البيضاء الاسمنتية أم البيضاء البشرية؟؟؟.
 ونشير بأن هذه القصائد مليئة بالفراغات التي تستفز القارئ وتدفعه لملئها؛ و ملء الفراغ ، يختلف باختلاف قدرات القراء ومخزونهم القرائي ومرجعياتهم المعرفية؛ من أجل إنتاج المعنى ، لا سيما إذا كنا أمام قارئ يمتلك خيالا خصبا ، و ذهنا حادا.

ففي هذه القراءة النقدية سأعمل على استنطاق النصوص وتفسيرها وتفكيكها للكشف عن معانيها ورموزها وبنية خطابها وملفوظاتها واستعاراتها؛ سأعمل على تتبع حواف تجربة محمد العياشي في مجال شعر التفعيلة الذي مازلنا نراه يحافظ عليه كما يحافظ الأنتروبولوجي على التراث من الاندثار؛ ونراه كذلك يحيل كل قصيدة إلى البحر الذي تنتمي إليه وكأنه يعطي للقارئ درسا في العروض.
الشاعر لا يكتفي بما تجود به عليه ربات الشعر من إلهام؛ بل يرقى بطالعة الشعر عنده إلى درجة الوحي وكأن الشعر عنده يختلف عن كلام الناس؛ ونظرته إلى الشعر هي نفسها التي قال بها كثير من المحدثين الذين يعتبرون قصائدهم إبداعا لا يمكن لأي شاعر الاتيان بمثله فهو وحي يخصه هو دون غيره من الشعراء؛ وهذا التصور يدخل في إطار اللغة الشعرية الانفجارية التي تتحدى لغة اليومي المعتاد وتتجاوزها إلى لغة الميتافزيقي الخارق للمعتاد؛ غير أن الشعراء الحداثيين ثاروا على شكل القصيدة ومضمونها لكن الشاعر محمد العياشي ظل وفيا لأيقونة الشعر التقليدي وهي بقاؤه وفيا لعمود الشعر العربقلبا وقالبا
إن الشاعر محمد العياشي لا يعتبر الشعر نظما موزونا مفيد له معنى؛ وإنما يرقى به ويعتبره إنشاءً ينبغي أن يحتدى به؛ والكلام الانشائي هو الكلام المخلوق المبتكر الذي لم يؤتى من قبل؛ فهو من وحي صاحبه؛ جادت به عليه ربة الشعر و لم تمد به أحد غيره:
يا صديقي استمع الى انشائي ---- ساعةً وانشغل به كَهُداء
إن الشاعر يختزل تجربة الحياة من الأطلس إلى الأطلسي حيث نسب محيط الظلمات كما كان يسمى إلى جبال الأطلس على اعتبار أن المغرب جسد واحد رحيم يتمطى ويتمدد فيه كما يريد؛ فهو جسم واحد غير قابل للتقسيم و التجزيء؛ لأن المغرب بلد التعايش و التساكن بين الناس جميعا باختلاف جنسياتهم ومعتقداتهم؛ وكل واحد يجد في البيضاء بيضاؤه على اعتبار أن البيضاء هي قلب المغرب النابض؛ والمشع بالحسن و الجمال.
غير أنه من حين لآخر نراه قلقا حزينا؛ فهو على علاقة وثيقة الصلة بالحيرة التي تتكشف في أشعاره في تمظهرها لحالة العاطفة الطالعة من الكوامن؛ حيث نراه مشدودا إلى عمق الجبل متأسفا على وجوده في هذه المدينة الغول المليئة بالفولاذ والحجر:
يا أيها الرجل المشتاق ما بك في ----- هذا العباب من الفولاذ و الحجر
فهو الشاعر المغرم المتيم إلى حد الجنون؛ الغارق في تجاويف العبور إلى بريق البيضاء ورونقها؛ ونتساءل مع الشاعر وهو الباحث في رحلته عن العشق الذي أدى به إلى الإحساس بالحيرة؛ هل يستمر في البحث عن الحسن و الجمال أم يعود أدراجه إلى جبال الأطلس؛ ويبقى حبيس أحاسيسه ومشاعره التي عاشها في البيضاء.
حيث إننا من خلال عتبة العنوان؛ وما اشتمل عليه الديوان من قصائد، نلمس ثورة داخلية عارمة تجتاح الشاعر، نتيجة لما يحس به ويعانيه من قلق نفسي وإحباطات وصراعات داخلية. فهو يعيش حالة من القلق النفسي، والغربة والضياع الذي يفجر في دواخله هذه الثورة وذلك التمرد، تمرد على كل شيء ، حتى على شعره الذي هو الوسيلة التي يحفر بها ما تنبجس عنه أحاسيسه ومشاعره ، فها هو يصرخ عاليا بأن شعرَه لم يعد يسعفه في رسم هواجسه وهمومه وترجمة مداركه وعواطفه .
ماذا يريد الشعر مني ألم يكن -----  حري بيَ أن أحيا ككل صحابي
لأن الشعر ما عاد هو السلاح الذي يحسن الشعراء استعماله؛ ولم يعد ذا فائدة؛ لأن مشاعر الناس ورؤاهم لم تعد صادقة ، وإنما أصبح مطية طيعة يعتليها كل متسلق.
إننا نشعر بحرقة الكلمة وهي تعتلي درجات الغربة؛ وما أقسى الغربة إذا كانت في الوطن، بالرغم من أنه يعيش بين ظهراني أهله وصحبه ، ويتمتع بصحبتهم في ربوع وطنه ، وفي حقيقة الأمر ما هذه الغربة الا حتمية من حتميات الغربة النفسية التي أفرزتها جراحات المعيش اليومي عبر مسيرته الحياتية.
إن هذا الديوان يحسسنا وكأن الشاعر محمد العياشي يحفر سيرته بيسر على صفحة الأطلسي بعدما بدأها على صفحات جبال الأطلس؛ صاغها بقالب شعري حافظ فيه على سيمترية القصيدة العمودية بوزنها وقافيتها مقلدا القدماء في ألفاظهم وتشبيهاتهم الحسية والمادية،  بشعور صادق ينساب في التعبير.
كما أن الهيكل أو البنية المؤطرة لهذا الديوان ، تتشكل من أربع طبقات للعمل الأدبي هي : أصوات الكلمات ، و معاني الكلمات ، و الأشياء التي يمثلها النص ، و أخيرا الجوانب التخطيطية؛ ونحن كقراء عندما نتصفح هذا الديوان نجده يحافظ على إطار القصيدة التقليدية؛ وأصوات اللغة العربية القديمة ومعانيها الغارقة في الإعجام لأنها بعيدة كل البعد عن اللغة المعاصرة المألوفة اللصيقة بالواقع المعيش؛ غير أنه بالرغم من ذلك فإن القصائد المشكلة للديوان تفتح كوة في سديم الظلام ينظر من خلالها القارئ إلى عالم الحقيقة القابعة في نفس الشاعر وفي ثنايا خياله وفي الفراغات و الفجوات التي يتركها الشاعر للمتلقي من أجل فهم القصيدة؛ لأنه يعيش حالتين؛ حالة الواقعي وحالة الواقع المتأمل الذي ينشده دوما في قصائده.
وقد ترجم الشاعر، محصلة أحاسيسه إلى قصائد شعرية لفها الرمز والغموض حينا ، واحتواها اليأس والقنوط والهروب من الواقع المرير المؤلم أحيانا أخرى ، وبات ينشد واقعا أكثر خيالا ، وأدق همسا ، فجاءت أشعاره مهموسة تخاطب الروح والنفس رافضا ما للعقل من هيمنة على نتاجه الأدبي.
محمد يوب
ناقد أدبي  

تعليقات