عنف اللغة



قراءة في (أبي يركض وراء قطيع الأحلام)
للقاص محمد الكريم
من حسنات الثورة التكنولوجية الحديثة؛ أنها تقدم إلى الأدباء العرب خدمات جليلة تسهم في إشاعة إبداعاتهم بين جميع القراء؛ وهي خدمات جليلة كسرت احتكار عملية النشر وقيودها وسطوة الناشرين والموزعين ومُجاملاتهم؛ كما تساهم في رواج حركة النقد الأدبي وتداول التجارب والآراء.
وقد أتاحت لي هذه الثورة التكنولوجية شخصيا فرصة الاطلاع على تجارب إبداعية من القُطر العراقي الشقيق؛ الذي تعلمنا على أيدي علمائه من أمثال: باقر سماكة وقاسم المومني والقزاز...واللائحة طويلة؛ واليوم أصبحت الفرصة مواتية لرد الجميل؛ بقراءة الإنتاج الأدبي العراقي في ضوء مناهج نقدية حديثة تواكب العصر وتتطلع على الجديد في ميكروفيزياء المنهج والمصطلح النقدي وتطبيقه على ماكروفيزياء المجتمع العراقي الذي عانى مرارة وويلات الحروب ابتداء من منتصف القرن الماضي ومازالت تبعات الحرب تمد جسدها المقيت على الشعب العراقي الذي فضل البقاء صامدا ضدا في معاكسة الحياة وتعنتها .

في هذه الورقة النقدية سأتناول بالدرس والتحليل نموذجا سرديا موسوما ب ( أبي يركض وراء قطيع الأحلام) للقاص (محمد الكريم)؛ وهي قراءة أتغيأ منها مصاحبة البنيتين؛ البنية الداخلية والبنية الخارجية؛ ففي المرحلة الأولى سأنطلق من بنية النص الداخلية في حالتها السكونية؛ و منها أنطلق إلى خارج النص دون الفصل بينهما؛ في إطار شبكة قرائية شمولية.
لأنه من أجل مصاحبة نقدية ناجحة ينبغي الانطلاق من اللُّغةِ، ولكن ليس في حالتها المعجمية ولا في حالتها التركيبية التي تجمد اللغة، وإنما ينبغي مصاحبتها كصياغة وتعبير داخل السياق السوسيوثقافي والمحيط النصي (le para texte)(لأن تجمد اللغة يعني بقاؤها خارج الحركة التاريخية للسياق التخاطبي، ويعني أيضا تراجع التركيب مرتميا في عزلته) من كتاب (في معرفة النص) يمنى العيد؛ص64
والمتصفح للمنجز القصصي (أبي يركض وراء قطيع الأحلام) يشعر منذ الوهلة الأولى بأن اللغة هي التي تتكلم؛ تَفعل ما تريد وفق شروطِ القاص؛ يُشكلها وفق تصوراته المُسبقة؛ فهي تتحول من حين لآخر إلى طرف متكلم يسيِّر أحداثَ القصص بالطريقة التي تُريد؛ والسبب في ذلك أنها لغة انزياحية؛ تخرج من عباءة المعجم وتتضمن حمولات فكرية وأيديولوجية مختلفة؛ وخاصة أن مفردات هذه القصص قادمة من معجم خاص له دلالات مرجعية؛ وهي حالة الحرب والرهبة التي يشم رائحتها المواطن العراقي وهي تتسلى بأرواح أهله وعشيرته بين زقاق وحواري المدن العراقية من مثل:(الانفجار؛ المشيعون؛ القبر؛ البكاء؛ الجماجم؛ هياكل عظمية...)
إن اللغة القصصية في هذه المجموعة لغة انفجارية تخرج عن المعتاد و تبتعد عن التفسير القاموسي المحنط للفظة، لغة دقيقة تفهم في سياق الخطاب القصصي؛ ومن تم تدفع القارئ لكي يؤول الكلمة الواحدة عدة تأويلات؛ وبحسب رؤيته النقدية؛ حيث القارئ يصبح مساهما في تأثيث فضاء القصة وذلك بملء الفراغات التي يتركها القاص عنوة.
إنها لغة تنمو وتنهض على الحركة؛ والدينامية؛ تعطي للشخصيات المؤثثة للفضاء القصصي حرية التعبير؛ وحرية التحول من الشخصية الثابتة إلى الشخصية الورقية الممثلة (acteur en papier) وهي شخصية زئبقية؛ متفلتة تتحول وتتغير بتغير الأدوار التي يسندها لها القاص.
والقاص وهو يكتب هذه القصص يتوارى وراء شخصياته؛ ويكتفي بإبداء الرأي في كثير من المواقف؛ وهي مواقف تعبر على نبض الشارع و هموم الإنسان العراقي (القانون حبلٌ يتدلى من دُبرِ السلطة؛ يلتفُّ حول رقبة الفقير ليقودهُ للانصياع وإلى الضياع) من قصة (الراقص والمقبرة) ص18
وعندما يتوارى القاص وراء شخصياته ويسير الأحداث في الاتجاه الذي يريد؛ عكس ما ينتظره القارئ؛ يوهمنا بحقيقة ما يكتب؛ وكأنه صانع الأحداث وبطلها، وهي بذلك تجعلنا ننظر إلى الفضاء القصصي و كأنه حقيقة ثابتة؛ نعيش فيه و نتعايش معه؛ يسرد الأحداث نيابة عن نفسه؛ وعن شخصياته؛ ومن حين لآخر يفسح للممثلين المجال للتعبير عن أنفسهم ( بقي ربع ساعة على وفاتي) من قصة (إعلان في جريدة) ص21
والشيء الذي يعطي لهذه الأحداث صبغة المعقولية؛ ويضفي عليها صفة المشروعية هو أنها تتشكل في تفضية زمكانية محددة وهي فضاء العراق؛ غير أن القاص لم ينطلق مما هو واقعي ومعيشي بشكل ميكانيكي؛ وإنما ترك التفضيء الزمكاني يختمر في ذهنه، ثم بعد ذلك نقله أدبا بعيدا عن التقريرية والنقل الآلي للواقع( أرفع رأسي إلى النافذة.. الوجه الفاحم تهسهسه النار، أقترب إليها تلفحني حرارتها، أمد يدي، أتلمس صدري
تدخل في ثقب لم أجد قلبي) من قصة (مذكرات اليوم السابق) ص81..
محمد يوب
ناقد أدبي

تعليقات