عبثُ الفلسفةِ



 منذ أن شيَّد الإنسانُ القديمُ مسكنَه ووفَّر قوته وضمن أمنهُ؛ بدأ يميز الرمزي والحدسي عن العقلي؛ وبدأت تتشكل لديه مفاهيم الفلسفة التي تعتمد على العقل والفكر؛ وتبعده شيئا فشيئا عن العادة و الغريزة.
ومن أبرز المشاغل التي شغلت الفكر الإنساني عبر العصور هي رغبته الملحة في فهم الكون؛ ومعرفة مصدره ومصيره ومصير الإنسان الذي يعيش فيه؛ ومن انشغالاته بهمِّ المعيش اليومي انطلق إلى هم من نوع آخر؛ وهو معاناة الهَمِّ الفلسفي بقضاياه الكبرى وطروحاته. حيث بدأت الفلسفة باعتبارها من أقدم الأنساق المعرفية التي تبحث في أنطلوجيا الكون وكينونة الإنسان في الزمان؛ وهي انطلاقا من هذا المنظور عبارة عن مجموعة من المشكلات والمحاولات لحلها؛ هل الله موجود؟ كيف ينبغي للإنسان أن يعيش؟ ما هي الفضيلة؟
غير أن تاريخ العلوم الإنسانية برهن لنا الانفصال بين المعرفة والحياة؛ وأكد لنا عدم تحقق حياة ومدن رسم الفلاسفة ملامحها؛ مثل ما حدث لأفلاطون وجمهوريته؛ والفرابي ومدينته؛ والمجتمع الشيوعي و الرغبة في انتفاء التفاوت الطبقي.
إذ أن ما يقوله الفلاسفة وما يرسمونه لا يغادر نطاق التصورات والأحلام إلى الواقع المادي الفعلي؛ بمعنى أن الفلسفة تظل منفصلة عن التاريخ وبعيدة عن الواقع؛ ولا تمتلك إمكانية تحققها الفعلي؛ كما أن هناك كثيرا من الفلاسفة من قتلتهم فلسفتهم مثلما وقع لسقراط...
لكن في وقتنا الحاضر لم نعد في حاجة إلى فلسفة وإنما نحن في حاجة إلى تفلسف؛  والتفلسف هو التركيز على نشاط العقل و قدرته على التفكير الذاتي بدل تداول معرفة جاهزة حتى ولو كانت فلسفية.وهو مبادرة شخصية تنتجها الدهشة؛ تقوم وتنهض على عمليات نقدية تساؤلية مستمرة عن معنى وقيمة الحقائق.
 ومن شروط التفلسف؛ التخلص من الأحكام المسبقة ومن هيمنة الحقائق المطلقة؛ والطقوس والعقائد الدينية... يقول ديكارت:( إن حضارة الأمة وثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها).
ومن مهامه إنتاج المفاهيم وبناؤها ثم البحث فيها وفي ما تحتويه من تناقضات وبعد ذلك مناقشة الأسباب التي تؤكد أو تنفي هذه التناقضات؛ من خلال إعمال لآليات المساءلة؛ والتحليل؛ والتركيب؛ والنقد؛ والاستنتاج...
وعملية التفلسف تواجه أنماط الفكر الشائعة؛ دون السقوط في تفاهة الحياة اليومية؛ وذلك من أجل القيام بثورات فكرية وسياسية من شأنها تغيير العقليات وتنويرها بشكل ذاتي مبادراتي.
محمد يوب

ناقد أدبي

تعليقات