تكسير مفهوم البطل الواحد



في رواية «زمورية أنا» للمغربي علي أفيلال
الحلاق الذي...
يعتبرالحلاق جزءا من نسيج العلاقات الاجتماعية أكثر مما هو مهني يؤدي عملاً محدداً؛ يواكب الحياة الاجتماعية في مختلف العصور والحضارات، وقد أصبح الحلاق بتاريخه وواقعه اليوم أشبه بسجل يختصر كل ما شهدته هذه المجتمعات عبر تاريخها الطويل.
 مجالسة الزائرين الذين يقصدون محله للزيارة والدردشة وتمضية بعض وقت الفراغ، والموسيقى التي كان للحلاَّق شأن في التعامل معها.
هناك كثير من الأدباء المغاربة يستغربون عندما يتحدثون عن الأديب علي أفيلال بكونه كاتبا حلاقا صدرت له عدة روايات ومجاميع قصصية دون أن يتحصل على شهادة من الشهادات التعليمية؛ بل أكثر من هذا هناك من ينظر إلى إبداعاته بعين الاستخفاف الهازئ.
وعندما التقيته مؤخرا وجدته يتكلم بحسرة وألم عن مصير المبدعين الحقيقيين؛ يبهرك بحمولته المعرفية التي صقلتها التجربة وغذتها القراءة؛ ذلك هو الأديب المغربي علي أفيلال؛ الذي يأخذك إلى عوالمه الممكنة وغير الممكنة؛ كاشفا عن بعض أسراره المتعلقة بأعماله الروائية و القصصية؛ مبينا مصادرها ونفسيات شخصياتها التي تؤثث أفضيتها.
عندما يتكلم تحس بأن له علاقة حميمية مع المكان، رحل صغيرا من مراكش مكان ولادته ليستقر بدرب السلطان عند أخيه الذي علمه  الحلاقة وعندما اشتد عوده انتقل الى حي سباتة ؛ ليبقى أخيرا متنقلا بين المغرب وفرنسا؛ لكن أحياء الدار البيضاء  ظلت في خياله وذاكرته، تلك المدينة المفعمة بالحياة؛ ينطلق منها ويعود إليها، يفارقها ويحن إلى أزقتها بما فيها من شقاء وفرح، وقسوة وحنان، يصنعان منه ذلك الإنسان ذا الطبيعة البشرية بقبحها وجمالها.
لم يكن له نصيب في مقاعد المدرسة المغربية؛ اتجه للعمل في الحلاقة بسب قسوة الحياة وظروف العيش القاهرة،  وبعدها انتقل من عالم الحلاقة إلى عالم الرواية التي تسع العالم بأكمله، فأصبح من أهم الأدباء المغاربة الذين سجلوا أسماهم في المشهد الثقافي المغربي خاصة والعربي عامة. لم يترك رأسه تتلاعب به أيدي العابثين المهملين بل اجتهد وكافح من أجل تزيين رؤوس الناس الشعثاء؛ ويلطف مشاعرهم البلهاء. يقف شامخا «فوق» رؤوس الناس؛ مما يؤهله معرفة ما يجري في نفسياتهم فينقلها أدبا؛ لم يسبق له أن صبغ شعر مسؤول كبير أو مشهور من المشاهير؛ لأنه لا يعرف لغة المساحيق؛ إنه يسمي الأشياء بمسمياتها، وهو الحلاَّق المعتمَد الذي نقصده دون غيره كلما احتجنا إلى قص شعرنا؛ وهو الأديب الذي نستمتع بكتاباته كلما أحببنا قراءة رواية من الروايات.
ومما يعرف به الأديب علي أفيلال أنه نجح في مهنة الحلاقة حيث أصبح حكما دوليا في هذا المجال ونجح في الكتابة السردية؛ ولم يتخلى عن الحرفتين أبدا؛ ظل مخلصا لمهنة الحلاقة ومخلصا لمهنة الكتابة الأدبية.
علي أفيلال في محل الحلاقة سيد نفسه وعلاقته محصورة بالزبائن؛ وفي السرد الروائي سيد شخصياته يحركها كما يحرك الكراكوز دماه
لم يقفز فوق مهامه بممارسة بعض المهمات الطبية مثل قلع الأضراس أو ختان الأولاد؛ وفي مجال الكتابة لم يخرج على مجال اختصاصه وهو الكتابة السردية.
له كرسي مرتفع نسبياً يسمح له بالتعامل مع رأس الزبون من دون أن ينحني عليه، ومرآة مستطيلة أمام الكرسي ليتابع الزبون مجريات العملية وبضعة مقاعد للمنتظرين أدوارهم.
إنها نفس اللعبة يمارسها الأديب علي أفيلال في الكتابة الروائية ينظر إلى شخصياته من فوق؛ ويترك للقارئ فرصة تتبع ما يجري من أحداث دون نقلها نقلا آليا وإنما عبر مرآة ارتدادية تنقل واقع آخر يحاكي الواقع الحقيقي؛ وكما تتعدد الحلاقات بتعدد الزبائن؛ تتعدد القراءات بتعدد القراء.
1 ـ مقدمة:
 كعادته يطالعنا الأديب علي أفيلال بنص روائي جديد وسمه بـ»زمورية أنا» الصادرة عن مطبعة النجاح 2015؛ وهي رواية تجري أحداثها في أفضية متنوعة بين أزمور؛ الدار البيضاء؛ فرنسا؛ وبطلتها (زمورية) وهي الساردة العالمة بكل تفاصيل الحكي الروائي؛ ومتغلغلة في نفسيات أبطالها.
لقد بدأت الرواية بتذكر (زمورية) للحظة تنهد على سالم الذي مات وتركها «سالم كيف تجيب وأنت من أسكنه البحر أعماقه؟» وظلت وحيدة تنسج خيوط روايتها في الذاكرة المألومة؛ وهي الرواية التي تبدأ تفاصيلها بزهرة التي «تزوجت بمن مَدَّ إليها يده فمدت له روحها…لم تر فيه مجرد بحار فقير»؛ لكن شاءت الأقدار أن يموت زوجها غرقا؛ وتغادر مدينة أزمور متوجهة إلى مدينة الدار البيضاء مع ابنها سالم «لم يترك لها قبرا تزوره وتبكي عليه بكاء ثكلى حرمت من جماليات الحياة»؛ وتبقى زهرة عرضة لنوائب الزمن ومصاعب الحياة؛ تقودها قدماها إلى باب أحد المصحات الخاصة مستجدية ما يجود عليها الناس من صدقات «أنا المريضة بعلة الفقر؛ ومكمن دوائي أن أجد ركنا أنزوي فيه على نفسي؛ رغبة في أن أجرب إذلال التسول» حيث تجد من يساعدها على ذلك؛ إذ إنها التقت بشعيب؛ الحارس الذي تعلق بها وبابنها؛ لكنها رفضت الخضوع لنظراته النافذة في أعماق جسدها؛ فظلت وفية لزوجها ولذكرياتها معه؛ وهي ذكريات سجلتها أدبا بقلم الكاتب إحسان الذي كان ينظر إليها نظرة حب؛ متمعنا في صدرها وفي جمالها؛ لكن من جهتها ظلت تقاوم رغبتها الشديدة؛ حرصا على تربية ابنها سالم الذي استكمل تربيته في بيت جدته إلى ان تزوج من (زينب) التي أنجبت منه الطفلة شامة؛ لكن الحياة ستعيد المأساة نفسها بعدما غرق سالم في البحر لتبقى شامة مع (زهرة) لتتركها في يوم من الأيام – وهي في حالة من الاضطراب النفسي- عرضة للضياع في زحمة محطة الحافلات في الدار البيضاء؛ وتموت زهرة في حادثة سير أثناء ذهابها إلى مدينة أزمور؛ لتضيع شامة؛ إلى أن يحين الوقت لتلتقي بأمها زينب بعد رحلة بحث من طرف الأديبة والباحثة مليكة، التي بذلت جهدا كبيرا في ربط الاتصال بالأم التي هاجرت إلى فرنسا للعمل كخادمة في البيوت الفرنسية؛ وتنتهي الرواية بالاتصال الهاتفي بين شامة وأمها زينب في جو من الحزن الممزوج بفرح اللقاء «ماما…أريد أن أراك».
والناظر في عنوان الرواية يلحظ توفر المكان بقوة؛ وهو مدينة أزمور الساحلية التي تنتسب إليها الساردة؛ إضافة إلى عتبة الغلاف التي ظهرت عليها صورة المدينة العتيقة وضريح الولي الصالح مولاي بوشعيب الرداد. وعندما نذكر مدينة أزمور ينبغي أن نستحضر القصة الغرامية التي جمعت بين لالة عائشة البحرية ومولاي بوشعيب الرداد؛ حيث إن بطلة هذه الحكاية جاءت من أقصى الشرق بحثا عن عشيقها؛ هذا الرجل الورع؛ الصالح؛ لأنها تحبه إلى درجة أنها غامرت وقذفت نفسها في البحر رغبة في الوصول إليه في الضفة الأخرى؛ لكن البحر كان أقوى منها؛ لتبقى القصة خالدة في الذاكرة ليستغلها الكاتب علي أفيلال في منجزه الروائي الذي نحن بصدد دراسته؛ غير أن الغارق هذه المرة ليست المرأة وإنما الرجل بشكل مضاعف؛ غرق الزوج؛ وغرق الابن (سالم) لتستمر لعبة الحكي؛ وكأن مدينة أزمور محكوم عليها أن يكون بحرها الهادئ مقبرة للعاشقين.
2 ـ تكسير مفهوم البطل الواحد
من جماليات الرواية الحداثية تكسير مفهوم البطل الواحد، الذي يستقطب كامل مجريات السرد؛ ورواية «زمورية أنا» تسير في هذا الاتجاه، حيث لم تعتمد على شخصية رئيسية واحدة وإنما اعتمدت على شخصيات محورية متعددة بتعدد فضاءات الرواية؛ فكما نجد زهرة بطلة رئيسية في الرواية هناك شعيب الذي يؤسس الرواية ويبني أحداثها؛ سواء من خلال ما يقدمه لزهرة من مساعدات أو من خلال تداعي حالاته النفسية التي عبر عنها من خلال نظراته ومن خلال الخدمات التي يسديها لزهرة ولابنها سالم أمام باب المصحة الخاصة؛ ونجد شخصية محيمد وإحسان الكاتبين اللذين أسسا لبناء روائي جديد داخل الرواية؛ محدثين شكلا جديدا من أشكال الكتابة الحداثية هي ما يسمى بالميتاسرد، حيث بتنا نقرأ رواية جديدة في قلب الرواية الأم؛ بمعنى أن مفهوم البطل الرئيسي قد تكسر وتحطم على جدار الفكر الحداثي الجديد الذي لا يؤمن بالبطل الأسطوري الخارق للعادة؛ بل أصبح يؤمن بمفهوم الجماعة كمعنى جديد في عالم انتفى فيه الفكر القطبي والفرد الزعيم. إن السرد الروائي في «زمورية أنا» مبني على توالد الأحداث وكأن البطلة شهرزاد جديدة تريد تمطيط الحكي لكي تنقذ نفسها من مصير مجهول؛ لأنها تجد نفسها مطاردة من جميع الجهات؛ تعيش حصارا داخل المكان؛ وحصارا مع من يؤثث المكان؛ ولهذا فإنها دوما تريد إطالة وتمديد النهار لكي لا يقبل عليها الليل ويجدها في أحضان الذئاب البشرية المجهولة صحبة ابنها سالم؛ الذي ترعرع أخيرا في بيت جدته؛ وهكذا تتداخل الرواية وتتشابك مع أبطال آخرين يسيِّرُون ركب الرواية؛ كما يسير سالم مركبه الذي غرق في البحر وغرقت معه أحلام زينب وزوجها.
غير أن الرواية ستستمر وتنجو من الغرق بمساعدة شخصيات أخرى بطلة كزينب زوجة سالم؛ الخادم في بيت مارلين التي تعيش معاناة أكثر مرارة من زينب وهي معاناتها مع مرض السرطان وفقدانها لابنتها ماري التي التقت بها أخيرا في جو من الفرح والمرح؛ لتنتهي الرواية بالمجهود الجبار الذي قامت به مليكة التي ظلت تبحث عن (شامة) الضائعة وقدمتها لأمها ليسدل ستار السرد الروائي بنهاية منطقية تنسجم ومجريات الأحداث وتحقق أفق انتظار القارئ.
محمد يوب

تعليقات