قراءة في "ذاكرة امرأة منسية " للقاصة العراقية أيسر الصندوق
إن
المتتبع للشأن القصصي في العراق، بعد انهيار حكم صدام حسين عام 2003؛ يلاحظ هذا
الكم الهائل من المجاميع القصصية التي غزت المكتبات وتوزعت على رفوفها بأشكال
وألوان مختلفة؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاحٍ، هل كل هذه المجاميع القصصية
تغري بالقراءة، وتلبي حاجيات القارئ المتعطش إلى الجديد والجميل الممتع؟؟ وهل هذه
المجاميع القصصية ترفع من ذائقة القارئ وتحرك الفضول المعرفي الذي يسكن الناقد؟
ومن بين
المجاميع القصصية التي أثارت اهتمامي في المشهد القصصي العراقي؛ المجموعة القصصية
الموسومة ب (ذاكرة امرأة منسية) للقاصة العراقية (أيسر الصندوق)؛ التي تستقي أحداثَها
من الذاكرة الحيَّة؛ غير أنها لا تستحضر الذاكرة الواعية بشكل آلي؛ وإنما تتركتها
تختمر زمنا طويلا؛ ثم تكتبها أدبا؛ بأن تضيف إليها ما سماه (رومان جاكوبسون)
بأدبية العمل الأدبي.
إنها
مجموعة تحكي في عمومها مسيرةَ حياةِ امرأةٍ حالمةٍ؛ يُعاكسها الحظُّ وتصطدم
أحلامُها بصخرة ظالمةٍ؛ تُكسرُ مجرى حياتها عند كل منعرج صغير (بدأتُ أكرهُ
العالمَ بأسره... كان الهروبُ مصدرَ راحة لي ولهم) .
غير أن
المرأة حين تتألم تزداد عاطفة وتنسى الألم؛ وبالنسيان تستمر حكاية السرد القصصي
القصير؛ الذي جاء في هذه المجموعة القصصية في شكل فلاشاتٍ مُرعبة من الوجع العراقي
في زمن الحرب؛ وهو زمن مستقطع من حياة العراقيين الذين فقدوا بوصلةً الحياةِ؛
وأصبحوا عرضة للموت المجاني.
فالكاتبة
اعتمدت خوض غمار اللُّعبة السردية مستعينة بقوارب النجاة التي تغوص في عُرض
نفسياتِ ومغاليقِ الشخصيات المؤثثة للفضاء القصصي (لو أعرفُ ماذا يريدُ من وراء
صمته هذا)...مستخدمة في ذلك لغة العراقيين وفضاءاتهم؛ معبرة عن آلامهم وأحزانهم؛
وعن الظروف المزرية التي دفعتهم إليها حالة الحرب؛ وحالة الإقصاء المادي والمعنوي؛
كما عبرت عن المرأة ودورها في المحافظة على توازن كفة الأسرة التي أصابها التمزق
من حيث لا تدري.
لكن الحرب
لم تمنع الإنسان العراقي من الحب؛ غير أن لحظات الحب الجميلة أبت إلا أن تعاكسه؛
وخاصة من جانب المرأة التي في كثير من الأحيان تصبح عبارة عن رقم يكمل به الرجل
سلسلةً من أرقام الرهان (اختلف تفكيري ولم أعد كما كنت مستسلمة لأحداث من حولي؛
أنام وأنتظرالصباح يطل على ساكني دارنا وأنا متمسكة بساعاته لأفعل ما يمكنني فعله؛
كانت تلك الساعة هي الأفضل حينما أوقفني خبر عن ذلك الرجل الساكن بقربي أنه يود
الارتباط بامرأة مثلي؛ تُذلل وحدتَه وتحتفظ بسنواته الباقية وتترجمها له لأنه عاجز
عن السمع والنطق) .
ومما
يلاحظ في هذه المجموعة القصصية هو أن البطلة هي نفسها الساردة في جميع القصص؛ لا
يتغير مسار خطها في سرد الأحداث، ونادرا ما تتغير نبرة صوتها من أجل كسر رتابة
السرد لكي لا يشعر القارئ بالملل أثناء تلقي الأحداث .كما نجدها تحاور نفسها، ومن
خلال هذا الحوار تحاور الشخصيات المساعدة التي تتقمص الأحداث و تعبرعنها، وهي في
نفس الآن تريد إشراك المتلقي في نسج خيوط القصة، وترتيب جوانبها بتقنية جديدة
تعتمد على الهدم والبناء، أي أنها تعتمد تقنية هدم السرد وإعادة بنائه من جديد دون
قطع حباله المسترسلة والمتماسكة.
معتمدة في
ذلك على اللغة القصصية التي تنمو وتتحرك بتحرك الأحداث؛ حيث إن الكاتبة تلتقط
مشاهدها من زمن الوقائع لتعيد كتابتها في زمن القص أو زمن الكتابة؛ حيث في هذا
الزمن يتعطل زمن الوقائع لكي يفسح المجال واسعا لزمن الخطاب الذي تنشط فيه
الشخصيات؛ التي لم تعد الشخصية/الشخص من لحم ودم وإنما تصبح شخصية ورقية تتلاءم
وسيرورة/صيرورة الأحداث؛ لكي تتلاءم مع الدور المنوط بها وهو دورُ الممثلِ الذي لا
يُنظر إلى شخصه وإنما يُنظر إلى الوظيفة التي يقوم بها؛ فالساردة تتتبع تفاصيل
الأحداث المأساوية التي تتعرض لها الشخصيات من مشهد قصصي لآخر (أجابني إنهم نازحون
من شمال قصي لاذوا بالفرار .. وما كان لهم سوى الفرار تاركين بيوتهم ومناطقهم
سيراً على الأقدام لساعات طويلة حتى أنتهى بهم المطاف هنا ..).
فالقارئ
لهذه القصص يشعر بحركية اللغة وديناميتها؛ مما يساعد على إحياء القصة ونموِّها؛
فاللفظة الواحدة تتحرك لتبحث عن التركيب المناسب؛ و التركيب يتحرك ليبحث عن
التعبير المناسب والتعبير يتحرك ليبحث عن الدلالة؛ وهكذا تتعدد الدلالات بتعدد
القراءات؛ لأن الخطاب القصصي يتحرك من السارد إلى المتلقي؛ وبين السارد والمتلقي
هناك مضمرات نصية وتناصية وتخطابية ودلالية...
وهكذا
تصبح اللغة أكثر حركية بالرغم من بساطتها؛ حيث في البساطة يكمن جمال السرد القصصي
(رفعت رأسي إلى الأعلى لأنظر اليه وجدت نظره يصطف الى جهة أخرى تمنيت لو أمسك بتلك
النظرات وأسألها لم تأتي وترحل ؟).

تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لحضورك واهتمامك