في الدراسات النقدية المعاصرة لم نعد نتحدث عن البنية
النصية فقط ؛ ولا على حياة المؤلف وظروفه النفسية والاجتماعية؛ وإنما بتنا نراهن
على استدعاء القارئ والنظر إلى مشاركته في تتمة النص باعتبار أن عملية الكتابة؛ لم
تعد تتحقق من جانب الكاتب فقط بل هي انكتاب؛ تشارك فيه يد الكاتب ويد النص ويد
القارئ؛ ولذلك أصبح النص نتاجا يجب أن يكون مصيره التأويلي جزءا من آليته
التوليدية الخاصة.
بمعنى أن البنية النصية ليست مستقلة بذاتها وإنما هي
ذات صلة وثيقة بالخارج النصي وبعملية التناص والاسترجاع وبثقافة القارئ ومقروئيته؛
كما أن التواصل اللساني لا يكفي وحده إذ لابد من التفاعل السميائي التي يساهم في
تعدد الأنساق والدلالات.
ولهذا بتنا نتحدث عن أنواع متعددة من القراء منهم
القارئ المخبر والقارئ الأعلى كما نجد عند الأمريكي (ميخائيل ريفاتير) فالقارئ المخبر هو الذي
يتفاعل إيجابيا مع أساليب النص اللغوية والبلاغية؛ فهو الذي يسطير على كل ما يشد انتباهه ويبطئ قراءته؛ أما
القارئ الأعلى فهو قارئ استكشافي يخرج بالنص إلى ثقافته الواسعة؛ من خلال البحث في
التراكيب والجمل التي تشكل بنية النص.
كما بتنا نتحدث عن القارئ
الضمني الذي قال به (أيزر) الذي يتورط في ملئ فراغات النص بما يتوفر لديه من بنيات
ذهنية؛ وهو قارئ يخضع لعملية التأثر و التفاعل من خلال القراءة؛ ولهذا فإن للنص
أثرين في نفسية القارئ : أثر فني وآخر جمالي؛ ونشير بأن القارئ الضمني هو قارئ
مفترض؛ قارئ من صناعة الكاتب.
كما أن هناك نوع آخر من القراء هو الذي يسميه
السميائي الإيطالي (أمبرطو إيكو) بالقارئ النموذجي الذي لا يكتفي بالتفاعل مع
بنيات النص اللغوية وإنما يتجاوز ذلك إلى تفكيك هذه البنيات المعقدة إلى علامات
سميائية لها دلالاتها المختلفة؛ كما أن العلامة من الممكن أن تنتج لنا نصوصا من
خلال ما يسميه (إيكو) ب (ذاكرة التناص) وهي نصوص يمكن أن تثير في القارئ قراءات
مختلفة وتأويلات غير متناهية.
إن النص عند (إيكو) نص معقد وغير مكتمل؛ والسبب في
ذلك هو أنه يتكون من بنى سطحية تتمثل في التعبير أو التمظهر الخطي للنص وأخرى عميقة
تتمثل في تحقيق محتوى البنية السطحية وهي التي يسميها (البنى الغائبة).
والقارئ النموذجي هو القادر على فك ألغاز هذه البنية
الغائبة؛ لأنه قارئ مختلف؛ قارئ حذق بارع؛ قارئ له مرجعياته؛ عندما يقرأ نصا؛ لا
يعود إلى المعاجم والقواميس وإنما يعتمد على قاموسه الخاص؛ لأن القاموس يعطي معرفة
محدودة ولا يؤدي للوصول للعديد من المعاني؛ إنه قارئ يعتمد على موسوعيته المتفردة(
الموسوعة القرائية) وهي موسوعية قادمة من
قراءاته المتنوعة في مجالات معرفية مختلفة؛ كما انه قارئ له القدرة على توجيه مصير
النصوص الوجهة التي يريد؛ من خلال الترسانة المعرفية التي يحملها ومن خلال الأدوات
والميكانزيمات التي يعرف جيدا مفاتيحها. وهذه الترسانة المعرفية تساعد القارئ
النموذجي على تأويل سلسلة من التعابير المجازية والإيحائية؛ كما تساعده على
التشفير الأيديولوجي؛ حيث إن القارئ النموذجي يعالج البنيات العاملية والبنيات
الأيديولوجية للنص انطلاقا من منظور أيديلوجي ذاتي.
والتعالق القائم بين البنيات العاملية والبنيات
الأيديولوجية يستدعي الكفاءة الأيديولوجية للقارئ النموذجي الذي يتدخل لتحديد
البنية العاملية؛ كما يتدخل في توزيع العوامل ويموضعها بالطريقة التي يريد؛ فهو يُموضع
العامل المساعد والعامل المعيق حسب علاقتهما بحمولة القيم التي يؤمن بها.
وفي النهاية نقول بأن القارئ النموذجي هو القارئ الذي
يتعاون مع الكاتب في توليد النص ؛ بمعنى أن لكل نص مكونين: المعلومات التي يزودنا
بها الكاتب والتأويلات التي يزودنا بها القارئ النموذجي.

تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لحضورك واهتمامك