زمن القصة القصيرة جدا




انتشرت في الأوساط الثقافية في فترة من الفترات   صيحة مدوية أعلنت بأن الزمن الذي نعيشه هو (زمن الرواية) وأن الأشكال التعبيرية الأخرى ذاهبة الى حتفها بما فيها الشعر الذي استنزلته الرواية من عليائه كما عبر عن ذلك جابر عصفور في كتابه (زمن الرواية).
والحقيقة أن هذا الكلام ينطبق على عهد مضى كانت فيه الرواية هي وسيلة التعبير المتاحة آنذاك؛ التي تفتح للقارئ عوالم تخييلية متنوعة؛ وذلك بترجمها أثناء عملية التلقي الى صور خيالية تنمي لديه حاستي الجمال والتذوق؛ اللتان ترفعان من ذائقة القارئ وتجعلانه يعيش متعة القراءة ولذة الاستمتاع بفضاء النص الروائي وشخصياته.
أما في وقتنا المعاصر فإننا نعيش أزمة وقت بسبب مشاغل الحياة وتعقيداها؛ الشيء الذي يفرض علينا الانفتاح على أشكال سردية جديدة تناسب قوة الواقع وتعبر عن نبض الحياة المعاصرة؛ وأقرب وسيلة تعبيرية لنبض الحياة المتسرع هي القصة القصيرة جدا.

والقصة القصيرة جدا؛ شكل من أشكال التعبير؛ فرضته ظروف العصر ومتطلبات الحياة السريعة والمتسرعة؛ وكذلك رغبة الإنسان في ابتكار طريقة في التعبير تواكب سرعة الحياة؛ وتتماشى مع ضغوطات المعيش اليومي؛ وجاءت كذلك لتتماشى مع المجتمع ما بعد- صناعي؛ ومجتمع المعرفة التقنية والمعلوميات ووسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث إن الإنسان لم يعد في حاجة للانتظار إلى الغد لمعرفة الخبر؛ بل أصبح في حاجة ملحة إلى معرفة النهايات في وقتها؛ كما هو الشأن أثناء مواكبته لأخبار القنوات الفضائية؛ أو متابعة أخبار الفيسبوك والتويتر...
إن ظهور القصة القصيرة جدا لم يكن عبثا وإنما  ظهرت لأسباب ذاتية تتعلق بدرجة القصدية والوعي عند القاص؛ التي تدفعه إلى محاولة الابتكار والتجديد؛ كما أنها ظهرت لتلبية رغبة سوسيوثقافية؛ فرضتها مستجدات عصر ما بعد الحداثة التي أطلقت النار على أقدام الحداثة؛ التي لفظت أنفاسها في الغرب؛ بسبب التحولات الاقتصادية العنيفة التي أدخلت الناس في عصر جديد من التطور السريع؛ الذي يواكب ثورة تكنولوجية المعلوميات؛ وأشكال الاستهلاك والاقتصاد المعولم؛ والنفعية العالمية.
وإرهاصات هذه الظاهرة السردية الجديدة ليست وليدة السنوات الأخيرة كما يعتقد كثير من الدارسين بل تتجاوز ذلك بكثير؛ فمنذ أن حددت (فرجينينيا وولف) موقفها من مستقبل القصة بقولها: إن مستقبل القصة لا محالة صائر إلى أن يصبح شعرا؛ وسيدخل في النثر الكثير من خصائص الشعر لأن الشعر قد فشل – في تصورها- في خدمة غايات القرن العشرين؛ ترى أن حل المشكلة يكون على يدي القصة الشعرية أي أن (تتبنى القصة شيئا من سمو الشعر وكثيرا من طبيعة النثر العادي)[1].
كما أن محاولة الأديبة الفرنسية (ناتالي ساروت) التي تجاوزت فرجيينيا وولف في تحليل المشاعر إلى وصف الانفعالات واستخراج الباطني منها في مجموعتها الصادرة عام 1938 بعنوان "انفعالات" وهي صور وليدة لحظة ترجمتها الأديبة إلى كلمات مكثفة ومحددة لتعبر عن أحاسيس عفوية لصيقة بالأشياء؛ وتعمل على طرح الأسئلة دون محاولة الإجابة عنها.[2].
وفي منتصف الستينيات رأى (جون ريد) بأن القارئ في حاجة إلى نصوص موجزة ومكثفة؛ فترجم أربعين قصة قصيرة جدا في كتاب واحد ومكتمل فنيا لمعالجته مع الطلبة داخل الأقسام الدراسية [3].
والقصة القصيرة جدا كشكل سردي جديد عبارة عن حدث لحظي؛ يدور في إطار زمني ومكاني ما؛ يثير واقعة ويطرح موضوعا وقع؛ يحتاج إلى شخصيات تربط بينهم علاقات؛ يُقدم هذا الحدث اللحظي بطرق مختلفة من صنع خيال القاص؛ والخطاب القصصي القصير جدا هو الفعل؛ والفعل هو الذي تقدمه الشخصيات على صفحات العمل السردي.

وللقصة القصيرة جدا عدة صفات ومميزات منها صفة الغموض الدال؛ أو الغموض المقصود؛ الذي من شأنه خلق هذا الصراع الدائم حول الشكل والمضمون؛ وقدرتها على تعميق الوعي بعالم الإنسان؛ وتوسيع فهم عوالمه المختلفة والمتعدّدة؛ لخلق دينامية إبداعية  قصيرة جدا لكنها عميقة جدا.
وتتميز كذلك بخاصية التكثيف والتركيز واختفاء تفاصيل الإنشاء؛ والتشطيبات الدائمة لما هو زائد؛ فهي كما يعبر عنه المثل المشهور (يكفيك من القلادة ما يحيط بالعنق)؛ فاللفظة فيها تحمل شحنات دلالية عالية الدقة بأقل الكلمات؛ وهو الذي يمكن أن ننعته بالاقتصاد الشديد في اللغة إلى درجة الزهد؛ مستغلة في ذلك تقنية الإقلال اللغوي المفضي إلى تشظي المعاني؛ فهي جمل قصيرة جدا تتجه صوب بناء بلاغة التكثيف؛ التي تنشحن فيها الدوال بقدرات تعبيرية لا حدود لها؛ فعندما تقرأ نماذج منها تشعر بأنها قصيرة جدا لكنها غنية جدا؛ تشعر المتلقي بومضة ليست مضيئة وإنما خاطفة؛ تستفزه أكثر مما تضيء له المحيط الخارجي، وتثير فضوله بطريقتها الملغزة.... 
محمد يوب




                 ليون إيدل- القصـة السيكولوجية - ت : محمودالسمرة- ص 297. [1]
                 ناتالي ساروت- انفعالات- ت : فتحي العشري- ص25.[2]
                J.C Reid, 40 Short short stories, Edwarl Arnold, p.7 [3]

تعليقات